عنوان الفتوى : ما الفرق بين العفو والصفح والمغفرة؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هل هناك فرق بين العفو، والصفح، والمغفرة، والرحمة، فإننا نجد العطف بينها في القرآن الكريم؟

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله.

أولًا:

يذكر العلماء أن الصفح أبلغ من العفو، وفي بيان ذلك يقول "الراغب": "والصَّفْحُ: ‌تركُ ‌التّثريب، وهو أبلغ من العفو، ولذلك قال:  فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ البقرة/ 109]، وقد يعفو الإنسان ولا يَصْفَحُ. قال: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف/ 89]، فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ الحجر/ 85 "، انتهى من"المفردات في غريب القرآن" (486).

وقال: "والعفو هو ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح: ‌ترك ‌التثريب"، انتهى من"الذريعة الى مكارم الشريعة" (241).

وقال "القرطبي": "وَالْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ. وَالصَّفْحُ: ‌إِزَالَةُ ‌أَثَرِهِ ‌مِنَ النَّفْسِ. صَفَحْتُ عَنْ فُلَانٍ إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذَنْبِهِ. وَقَدْ ضَرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ وَتَرَكْتُهُ".

انتهى من"تفسير القرطبي" (2/71).

ويقول "ابن عاشور":

"‌وَالْعَفْوُ ‌تَرْكُ ‌عُقُوبَةِ ‌الْمُذْنِبِ. وَالصَّفْحُ- بِفَتْحِ الصَّادِّ- مصدر صفح صَفْحًا إِذَا أَعْرَضَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ وَلَّاهُ مِنْ صَفْحَةِ وَجْهِهِ، وَصَفَحَ وَجْهَهُ أَيُّ جَانِبَهُ وَعَرْضَهُ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي عَدَمِ مُوَاجَهَتِهِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، أَيْ عَدَمِ لَوْمِهِ وَتَثْرِيبِهِ عَلَيْهِ.

وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ الرَّاغِبِ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ الْأَمْرَ بِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَفْوِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، وَلَمْ يَسْتَغْنِ بِـ(اصْفَحُوا)، لِقَصْدِ التَّدْرِيجِ فِي أَمْرِهِمْ بِمَا قَدْ يُخَالِفُ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الِانْتِقَامِ، تَلَطُّفًا مِنَ اللَّهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ".

انتهى من"التحرير والتنوير" (1/671).

ثانيًا:

ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن العفو أبلغ من المغفرة؛ لأن العفو محو، والمغفرة ستر، والصحيح: أن المغفرة أبلغ من العفو، على القول الراجح؛ لما تتضمنه من الإحسان والعطاء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

" الْعَفْوُ مُتَضَمِّنٌ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ قِبَلِهِمْ وَمُسَامَحَتِهِمْ بِهِ، وَالْمَغْفِرَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِوِقَايَتِهِمْ شَرَّ ذُنُوبِهِمْ، وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِمْ، وَرِضَاهُ عَنْهُمْ؛ بِخِلَافِ الْعَفْوِ الْمُجَرَّدِ؛ فَإِنَّ الْعَافِيَ قَدْ يَعْفُو ، وَلَا يُقْبِلُ عَلَى مَنْ عَفَا عَنْهُ ، وَلَا يَرْضَى عَنْهُ .

فَالْعَفْوُ تَرْكٌ مَحْضٌ، وَالْمَغْفِرَةُ إحْسَانٌ وَفَضْلٌ وَجُودٌ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (14/ 140).

وقد بينا ذلك في الجواب رقم: (236863).

ثالثًا:

وفي قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ ‌تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التغابن/14، يقول البيضاوي: "وَإِنْ تَعْفُوا ‌عن ‌ذنوبهم ‌بترك ‌المعاقبة. وَتَصْفَحُوا بالإِعراض وترك التثريب عليها. وَتَغْفِرُوا بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها"، انتهى.

"تفسير البيضاوي" (5/219).

وقال "الطاهر": "وَالْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الذَّنْبِ بَعْدَ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا. وَلَوْ مَعَ تَوْبِيخٍ.

وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُذْنِبِ، أَيْ تَرْكُ عِقَابِهِ عَلَى ذَنْبِهِ دُونَ التَّوْبِيخِ.

وَالْغَفْرُ: سَتْرُ الذَّنْبِ وَعَدَمُ إِشَاعَتِهِ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى تَرَاتُبِ آثَارِ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ وَمَا تَقْتَضِيهِ آثَارُهَا مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الثَّلَاثِ"، انتهى من"التحرير والتنوير" (28/285).

وفي "التفسير الوسيط" : "(وَإِنْ تَعْفُوا) عن ذنوبهم وتتجاوزوا عن سيئاتهم التي تقبل العفو، بأَن تكون متصلة ومتعلقة بأُمور الدنيا، كإضاعة المال ونحوه، أَو مرتبطة بأُمور الدين كالعقوق وسوء العشرة وترك مأمور به أَو فعل منهي عنه ولكن أَعقبتها التوبة والعفو يكون بترك العقوبة. (وَتَصْفَحُوا) أَي: تعرضوا عن هذه الخطايا بترك التعيير بها والتأنيب والتثريب عليها.

(وَتَغْفِرُوا) أَي: تستروها بإِخفائها وتغطيتها تمهيدًا لنسيانها حتى لا يؤدي التذكير بها إلى العودة إِليها والتمادي فيها"، انتهى من "التفسير الوسيط - مجمع البحوث" (10/1453).

رابعًا:

أما الفرق بين المغفرة والرحمة، فيقول "الراغب" : "المغفرة تُقال اعتبارًا بإزالة الذنوب، والرحمة تقال اعتبارًا بإيجاب التوبة"، انتهى من"تفسير الراغب الأصفهاني" (3/1409).

ويقول "الرازي" : "المغفرة هو أن يستر القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته، حتى إن العبد إذا ستر عيب سيده مخافة عقابه، لا يقال إنه غفر له.

والرحمة هو أن يميل إليه بالإحسان، لعجز المرحوم إليه، لا لعوض.

فإن من مال إلى إنسان قادر، كالسلطان، لا يقال رحمه.

وكذا من أحسن إلى غيره رجاء في خيره، أو عوضا عما صدر منه آنفا من الإحسان: لا يقال رحمه.

إذا عُلم هذا؛ فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة: يكون معناها أنه ستر عيبه، ثم رآه مفلسًا عاجزا، فرحمه وأعطاه ما كفاه.

وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة، وهو قليل: يكون معناها أنه مال إليه لعجزه، فترك عقابه، ولم يقتصر عليه؛ بل ستر ذنوبه".

"تفسير الرازي " (25/ 156-157).

ويقول "الطاهر" : "الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ.

وَكَظْمُ الْغَيْظِ إِمْسَاكُهُ وَإِخْفَاؤُهُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَظَمَ الْقِرْبَةَ إِذَا مَلَأَهَا وَأَمْسَكَ فَمَهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْإِمْسَاكِ مَعَ الِامْتِلَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَقْوَى الْقُوَى تَأْثِيرًا عَلَى النَّفْسِ الْقُوَّةُ الْغَاضِبَةُ فَتَشْتَهِي إِظْهَارَ آثَارِ الْغَضَبِ، فَإِذَا اسْتَطَاعَ إِمْسَاكَ مَظَاهِرِهَا، مَعَ الِامْتِلَاءِ مِنْهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَزِيمَةٍ رَاسِخَةٍ فِي النَّفْسِ، وَقَهْرِ الْإِرَادَةِ لِلشَّهْوَةِ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ قُوَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ.

الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: الْعَفْوُ عَنِ النّاس فِيمَا أساؤوا بِهِ إِلَيْهِمْ. وَهِيَ تَكْمِلَةٌ لِصِفَةِ كَظْمِ الْغَيْظِ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ، لِأَنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ قَدْ تَعْتَرِضُهُ نَدَامَةٌ، فَيَسْتَعْدِي عَلَى مَنْ غَاظَهُ بِالْحَقِّ.

فَلَمَّا وُصِفُوا بِالْعَفْوِ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ وَصْفٌ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ، مُسْتَمِرٌّ مَعَهُمْ.

وَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِي نَفْسٍ سَهُلَ مَا دُونَهَا لَدَيْهَا.

وَبِجِمَاعِهَا يَجْتَمِعُ كَمَالُ الْإِحْسَانِ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مُحْسِنُونَ، وَاللَّهُ يحبّ الْمُحْسِنِينَ".

"التحرير والتنوير" (4/91).

وهذه الأخلاق من أهم ما ينبغي على المؤمن أن يتخلق به.

يقول "الشنقيطي": " «وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا: فيه الأمر من الله للمؤمنين، إذا أساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين: أن يعفوا عنه إساءتهم ويصفحوا.

وأصل العفو: من عفت الريحُ الأثرَ؛ إذا طمسته.

والمعنى: فليطمسوا آثار الإِساءة بحِلْمهم، وتجاوزهم.

والصفح، قال بعض أهل العلم: مشتق من صفحة العنق، أي: أعرضوا عن مكافأة إساءتهم، حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق، معرضين عنها.

وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبينًا في مواضع أخر، كقوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134).

وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيظ والعفو عن الناس من صفات أهل الجنة، وكفى بذلك حثًا على ذلك.

ودلت أيضًا: على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به، وكقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149).

وقد بين تعالى في هذه الآية: أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى، وكفى بذلك حثًا عليه. وكقوله تعالى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) وكقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ: دليل على أن العفو والصفح عن المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب، والجزاء من جنس العمل، ولذا لما نزلت قال أَبو بكر: بلى واللَّه نحب أن يغفر لنا ربنا، ورجع للإِنفاق على مسطح، ومفعول (أن يغفر الله) محذوف للعلم به، أي: يغفر لكم ذنوبكم".

انتهى من"أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (6/ 181-182).

والله أعلم.