عنوان الفتوى : معنى الحكمة المقرونة بالكتاب
ما البرهان على أن الحكمة المرادة في هذه الآية، هي السنة النبوية: وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا. النساء (113). ما الدليل القاطع من اللغة العربية على ذلك؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المشهور في معنى الحكمة المقرونة بالكتاب، كما في قوله تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا {النساء:113}، ونحوها من الآيات أنها السنة، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا {الأحزاب:34}، وهل كان يتلى في بيوت أزواج النبي إلا القرآن العظيم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال ابن تيمية: وقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}، وقال تعالى عن الخليل: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم}، وقال تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة}.
وقد قال غير واحد من العلماء: منهم يحيى بن أبي كثير وقتادة والشافعي وغيرهم (الحكمة): هي السنة؛ لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب: القرآن، وما سوى ذلك مما كان الرسول يتلوه: هو السنة. اهـ. من مجموع الفتاوى.
وقد قيل في تفسير الحكمة في تلك الآيات أقوال أُخر، والتحقيق: أن تلك الأقوال متنوعة لا تنافي بينها ولا تضاد، كما بيَّن ذلك جمع من المحققين كابن تيمية، وابن كثير، وابن رجب.
قال ابن تيمية: والرسول أنزل الله عليه الكتاب والحكمة، كما ذكر ذلك في غير موضع. وقد علم أمته الكتاب والحكمة، كما قال: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}. وكان يذكر في بيته الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك، فقال: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة}. فآيات الله هي القرآن؛ إذ كان نفس القرآن يدل على أنه منزل من الله، فهو علامة ودلالة على منزله.
والحكمة قال غير واحد من السلف: هي السنة.
وقال أيضا طائفة كمالك وغيره: هي معرفة الدين والعمل به.
وقيل غير ذلك، وكل ذلك حق، فهي تتضمن التمييز بين المأمور والمحظور؛ والحق والباطل؛ وتعليم الحق دون الباطل. وهذه السنة التي فرق بها بين الحق والباطل، وبين الأعمال الحسنة من القبيحة؛ والخير من الشر. اهـ. من مجموع الفتاوى.
وقال ابن كثير في تفسيره: وقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب}، يعني: القرآن. {والحكمة} يعني: السنة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم. وقيل: الفهم في الدين. ولا منافاة. اهـ.
وقال ابن رجب: وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]: يعني بالكتاب: القرآن. والمراد: ويعلمهم تلاوة ألفاظه، ويعني بالحكمة: فهم معاني القرآن والعمل بما فيه، فالحكمة هي: فهم القرآن والعمل به، فلا يكفي بتلاوة ألفاظ الكتاب حتى يعلم معناه ويعمل بمقتضاه، فمن جمع له ذلك كله فقد أوتي الحكمة، قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269].
قال الفضيل: العلماء كثير، والحكماء قليل. وقال: الحكماء ورثة الأنبياء، فالحكمة هي العلم النافع الذي يتبعه العمل الصالح، وهو نور يقذف في القلب يفهم بها معنى العلم المنزل من السماء، ويحض على اتباعه والعمل به.
ومن قال الحكمة: السنة فقوله الحق؛ لأن السنة تفسر القرآن وتبين معانيه، وتحض على اتباعه والعمل به، فالحكيم هو العالم المستنبط لدقائق العلم المنتفع بعلمه بالعمل به. اهـ. من لطائف المعارف.
فأقوال المفسرين في معنى الحكمة المقرونة بالكتاب، هو شاهد على ما قرره العلماء من أن غالب اختلاف التفسير بين السلف هو من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.
قال ابن تيمية: الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان:
أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى، غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة، كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى، مضادا لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى}.
ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس، مثال ذلك: تفسيرهم للصراط المستقيم: فقال بعضهم: هو القرآن، أي اتباعه، وقال بعضهم: هو الإسلام، فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ "صراط" يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة. وقول من قال: هو طريق العبودية. وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك، فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.
الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى [لفظ الخبز] فأري رغيفًا، وقيل له: هذا، فالإشارة إلى نوع هذا، لا إلى هذا الرغيف وحده.
وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير، تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه، كالتمثيلات، هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف. اهـ. باختصار من مقدمة أصول التفسير.
وأما سؤالك: (ما الدليل القاطع من اللغة العربية على ذلك) فغريب! وهل يشترط في صحة تفسير لفظة بمعنى ما، أن تدل اللغة العربية على ذلك المعنى بخصوصه دلالة قاطعة؟! كلا! بل المهم أن يكون ذلك المعنى سائغا في اللغة غير ممنوع، وبين الأمرين فرق عظيم، كما بين السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع!
وعلى كل حال: فإن معنى الحكمة في اللغة كما قال ابن عاشور في تفسيره: والحكمة إتقان العلم، وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم، وهي مشتقة من الحكم- وهو المنع- لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال، قال تعالى: كتاب أحكمت آياته [هود: 1]، ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس، حكمة .اهـ.
ولا جرم أن السنة لا تنافي هذا المعنى، بل السنة هي أولى ما يندرج في هذا المعنى.
وراجع للفائدة، الفتوى: 74614.
والله أعلم.