عنوان الفتوى : لماذا سأل موسى ربه وزيرًا من أهله؟ وتفسير قوله: "كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا..."
{وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)} سورة طه قال موسى عن سبب جعل هارون رسولًا معه: أنهما يسبحان الله كثيرًا، ويذكرانه كثيرًا، وفي هذا سؤالان: الأول: لم يقل: ليساعدني في دعوة فرعون، بل تسبيح، وذكر. الثاني: معروف أن المرء يسبحه في نفسه، فلا حاجه لكون أحد معه يسبح في نظر البشر.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأما ما ذكرته في سؤالك الأول، فلا ريب في أنه غير صحيح، بل الآيات نفسها تصرح بخلافه، فسؤال موسى -عليه السلام- ربه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي {طه:29-32}، هو من أجل أن يعينه على دعوته، جاء في تفسير البغوي: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا} معينًا، وظهيرًا، {مِنْ أَهْلِي} والوزير: من يوازرك، ويعينك، ويتحمل عنك بعض ثقل عملك، ثم بيّن من هو، فقال: {هَارُونَ أَخِي}، وكان هارون أكبر من موسى بأربع سنين، وكان أفصح منه لسانًا، وأجمل، وأوسم، وأبيض اللون، وكان موسى آدم أقنى جعدًا، {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قوِّ به ظهري {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أي: في النبوة، وتبليغ الرسالة، وقرأ ابن عامر: "أشدد" بفتح الألف، "وأشركه" بضمها، على الجواب، حكاية عن موسى، أي: أفعل ذلك، وقرأ الآخرون على الدعاء. اهـ.
وقد حكى الله عنه مثل ذلك في موطن آخر: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ {الشعراء:12-13}، قال البيضاوي: رتب استدعاء ضم أخيه إليه، وإشراكه له في الأمر، على الأمور الثلاثة: خوف التكذيب، وضيق القلب انفعالًا عنه، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه، بحيث لا ينطلق؛ لأنها إذا اجتمعت، مست الحاجة إلى معين، يقوّي قلبه، وينوب منابه متى تعتريه حبسة؛ حتى لا تختل دعوته، ولا تنبتر حجته، وليس ذلك تعللًا منه، وتوقفًا في تلقي الأمر، بل طلبًا لما يكون معونة على امتثاله، وتمهيد عذره فيه. اهـ.
وقال سبحانه في موضع آخر على لسان موسى -عليه السلام-: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ {القصص:34}، قال ابن كثير: لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون، الذي إنما خرج من ديار مصر فرارًا منه، وخوفًا من سطوته، {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا} يعني: ذلك القبطي، { فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أي: إذا رأوني.
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}، وذلك أن موسى -عليه السلام-، كان في لسانه لثغة؛ بسبب ما كان تناول تلك الجمرة، حين خير بينها وبين التمرة، أو الدرة، فأخذ الجمرة، فوضعها على لسانه، فحصل فيه شدة في التعبير؛ ولهذا قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:27-32]، أي: يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم، وهو القيام بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد؛ ولهذا قال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا [يُصَدِّقُنِي]}، أي: وزيرًا، ومعينًا، ومقويًّا لأمري، يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل؛ لأن خبر اثنين أنجع في النفوس من خبر واحد؛ ولهذا قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}.
وقال محمد بن إسحاق: {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} أي: يبين لهم عني ما أكلمهم به، فإنه يفهم [عني]، فلما سأل ذلك، قال الله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي: سنقوي أمرك، ونعز جانبك بأخيك، الذي سألت له أن يكون نبيًّا معك، كما قال في الآية الأخرى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} [طه:36]، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53]؛ ولهذا قال بعض السلف: ليس أحد أعظم منّة على أخيه، من موسى على هارون -عليهما السلام-، فإنه شفع فيه؛ حتى جعله الله نبيًّا، ورسولًا معه إلى فرعون وملئه؛ ولهذا قال [الله تعالى] في حق موسى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]. اهـ.
وأما السؤال الثاني المتعلق بوجه تعليل دعاء موسى بالنبوة لهارون -عليهما السلام- بقوله: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا {طه:33، 34}، فقد ذكر المفسرون أوجهًا في ذلك، جاء في أبي السعود في تفسيره لهاتين الآيتين: غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة، فإن فعل كل واحد منهما من التسبيح، والذكر مع كونه مكثرًا لفعل الآخر، ومضاعفًا له بسبب انضمامه إليه، مكثر له في نفسه أيضًا؛ بسبب تقويته، وتأييده؛ إذ ليس المراد بالتسبيح، والذكر ما يكون منهما بالقلب، أو في الخلوات؛ حتى لا يتفاوت حاله عند التعدد والانفراد، بل ما يكون منهما في تضاعيف أداء الرسالة، ودعوة المردة العتاة إلى الحق، وذلك مما لا ريب في اختلاف حاله في حالتي التعدد والانفراد، فإن كلًّا منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق، ما لا يكاد يصدر عنه مثله في حال الانفراد. اهـ.
وقال ابن عاشور: وعلّل موسى -عليه السلام- سؤاله تحصيل ما سأله لنفسه ولأخيه، بأن يسبحا الله كثيرًا، ويذكرا الله كثيرًا، ووجه ذلك أن فيما سأله لنفسه تسهيلًا لأداء الدعوة؛ بتوفر آلاتها، ووجود العون عليها؛ وذلك مظنة تكثيرها.
وأيضًا فيما سأله لأخيه تشريكه في الدعوة، ولم يكن لأخيه من قبل، وذلك يجعل من أخيه مضاعفة لدعوته، وذلك يبعث أخاه أيضًا على الدعوة، ودعوة كل منهما تشتمل على التعريف بصفات الله، وتنزيهه، فهي مشتملة على التسبيح، وفي الدعوة حث على العمل بوصايا الله تعالى عباده، وإدخال الأمة في حضرة الإيمان، والتقوى، وفي ذلك إكثار من ذكر الله بإبلاغ أمره ونهيه، ألا ترى إلى قوله تعالى بعد هذه الآيات: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي [طه:42]، أي لا تضعفا في تبليغ الرسالة، فلا جرم كان في تحصيل ما دعا به إكثار من تسبيحهما، وذكرهما الله.
وأيضًا في التعاون على أداء الرسالة تقليل من الاشتغال بضرورات الحياة؛ إذ يمكن أن يقتسما العمل الضروري لحياتهما، فيقل زمن اشتغالهما بالضروريات، وتتوفر الأوقات لأداء الرسالة، وتلك فائدة عظيمة لكليهما في التبليغ.
والذي ألجأ موسى إلى سؤال ذلك علمه بشدة فرعون، وطغيانه، ومنعه الأمة من مفارقة ضلالهم، فعلم أن في دعوته فتنة للداعي، فسأل الإعانة على الخلاص من تلك الفتنة؛ ليتوفرا للتسبيح والذكر كثيرًا .اهـ.
والله أعلم.