عنوان الفتوى : الجمع بين الخوف والرجاء في طريق السلوك إلى الله تعالى
أحيانًا كثيرة أذكر الموت، والحساب، وقوله تعالى: [فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره]، وأننا لا نتحمل لسعة نار الدنيا؛ فكيف بالآخرة! وأقول لنفسي: يا ليتني كنت نسيًا منسيًا، ويا ليتني لم أكن، وأشعر بالرعب والخوف كلما كبر السن، فماذا أفعل؟ جزاكم الله خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الذي تفعله أمر حسن، فإن الشارع قد أمرنا بالإكثار من ذكر الموت، والاستعداد له، وحثنا على تذكر الآخرة، وأمرنا الله بالخوف منه، واتقاء عقابه، كما قال تعالى: وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {آل عمران:175}، ولكن يجب أن يكون هذا الخوف مقرونًا بالرجاء، فقد قال الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ {الإسراء:57}، وقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا {الأنبياء:90}.
والنصوص في هذا المعنى -الذي هو ضرورة الجمع بين الخوف والرجاء في طريق السلوك إلى الله تعالى- كثيرة جدًّا، فاجعل هذا الخوف خوفًا صحيًّا محمودًا، لا خوفًا مرضيًّا مقعِدًا مثبِّطًا؛ وذلك أن الخائف حقًّا يعمل للنجاة مما يخافه، ولتحصيل ما يرجوه، فليكن هذا الخوف معينًا لك على مزيد الاجتهاد في طاعة الله تعالى، والإقبال عليه، وبذل الوسع في مرضاته.
وقد استحب كثير من السلف أن يغلب الخوف على العبد حال الحياة، وأن يغلب الرجاء عليه عند الموت؛ وذلك لأن الخوف أبعث على الجد في العمل، والاجتهاد في الطاعة، قال الإمام المحقق ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: الْقَلْبُ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِرِ، فَالْمَحَبَّةُ رَأْسُهُ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَنَاحَاهُ، فَمَتَى سَلِمَ الرَّأْسُ وَالْجَنَاحَانِ فَالطَّائِرُ جَيِّدُ الطَّيَرَانِ، وَمَتَى قُطِعَ الرَّأْسُ مَاتَ الطَّائِرُ، وَمَتَى فُقِدَ الْجَنَاحَانِ فَهُوَ عُرْضَةٌ لِكُلِّ صَائِدٍ وَكَاسِرٍ، وَلَكِنَّ السَّلَفَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَقْوَى فِي الصِّحَّةِ جَنَاحُ الْخَوْفِ عَلَى جَنَاحِ الرَّجَاءِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا يَقْوَى جَنَاحُ الرَّجَاءِ عَلَى جَنَاحِ الْخَوْفِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِ، قَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفَ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ فَسَدَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ: اعْتِدَالُ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَغَلَبَةُ الْحُبِّ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الْمَرْكَبُ. وَالرَّجَاءُ حَادٍ، وَالْخَوْفُ سَائِقٌ، وَاللَّهُ الْمُوَصِّلُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. انتهى.
والله أعلم.