عنوان الفتوى : حكم المواد الإضافية في الغذاء والدواء التي لها أصل نجس أو محرم
بحثتُ كثيرًا في مسألة المشتقات الحيوانية الموجودة في الأدوية، وقرأتُ قرارات المجامع الفقهية الطبية في هذا الصدد. ولكنني لاحظتُ أن أغلب من تناول هذه القضية تحدث فقط عن "الجيلاتين". وقرأتُ عن الاستحالة، وعلمتُ أن هناك آراء معتبرة لمختصين -مثل الدكتور وفيق الشرقاوي، كما جاء في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة- يرون أن جيلاتين الخنزير مثلاً لا تتحقق فيه الاستحالة الكاملة. ولقد امتنعتُ عن تناول الأدوية المصنوعة من كبسولات جيلاتينية تورعًا. ولكن بعد البحث في المراجع الأجنبية، وجدتُ أن الأمر لا يقتصر فقط على "الجيلاتين"، بل هناك مثلاً مادتان أخريان قد تشتقان من مصادر حيوانية وهما: "مغنسيوم ستيريت" و"لاكتوز مونوهيدرات". فهاتان المادتان موجودتان في كثير من الأقراص الدوائية، وقد تستخرجان من مصادر حيوانية. ولكنني لم أجد من تحدث عنهما، من حيث تحقق الاستحالة أو عدمها، مثلما يتحدث الجميع عن الجيلاتين الحيواني. ومن واقع تجربة شخصية، فقد تعرضتُ لمرضين مؤخرًا، وعانيتُ كثيرًا كي أجد دواءً يخلو من المشتقات الحيوانية. ففي المرة الأخيرة مثلاً، لم أجد سوى دواء واحد فقط يخلو من المشتقات الحيوانية، من بين حوالي عشرة أدوية. لذا قررتُ مراسلة "مجمع الفقه الإسلامي"، لأنني أعلم أنهم يعقدون مؤتمرات في هذا الصدد، بمشاركة علماء مختصين، مثل "المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية"، ودعوتهم إلى بحث هذه المسألة، وقاموا بالرد عليَّ بما معناه أن مادة "مغنسيوم ستيريت" تُستخدم بنسب ضئيلة، وأن مادة "لاكتوز مونوهيدرات" تُستخرج من اللبن، ولكن أثناء بحثي في منشورات هذه الأدوية، وجدتُ أن الأنفحة قد تُستخدم في صناعة مادة "لاكتوز مونوهيدرات"، وهو مكتوب صراحةً في منشورات بعض الأدوية، وفقًا للشركات المصنِّعة. هذه المسألة تمثل ليَّ إشكالية كبيرة عند المرض، فعندما أتعرض لمرض، أطلب من الطبيب أن يصف ليَّ أكثر من دواء، وأقوم بالبحث حتى أجد دواءً يخلو من المشتقات الحيوانية. ومن واقع تجربتي، فرحلة البحث عن دواء يخلو من المشتقات الحيوانية أمرٌ في غاية الصعوبة؛ لأن معظم الأدوية لا تسلم من هذه المشتقات الحيوانية. وللأسف كثيرٌ من الأطباء لا يعلمون هذا الأمر. فعلى سبيل المثال، ليَّ قريبة صيدلانية، تعمل في إحدى شركات الأدوية الأجنبية، أجد حرجًا بالغًا بشأن التعامل مع أموالها أو الأكل من طعامها؛ لأنني بعد رحلة بحث طويلة، تأكدتُ أن المشتقات الحيوانية تُستخدم في معظم الأدوية. ولا أدري لماذا لا يولي علماؤنا هذا الأمر الأهمية التي يستحقها، رغم أنه يمس حياة كل مسلم. وفي ظني أنه ينبغي للعلماء والأطباء أن يبحثوا هذه الأمور معًا، من الناحيتين الطبية والشرعية، لكي يوفروا علينا هذا العناء. ولماذا لا تضغط حكوماتنا الإسلامية على الشركات المصنِّعة، وتدعوهم لاحترام شريعتنا، ومن ثم تصنيع أدوية تخلو من هذه المحظورات، ولا سيما أن الأمر أصبح متيسرًا بأمر الله، فهذه المواد بات من الممكن تصنيعها بطرق أخرى، ويا ليت حكوماتنا تمارس ضغطًا على هذه الشركات، وتجنبنا هذا الحرج، فنحن سوق استهلاكي كبير لا يُستهان به، ويمكننا تكبيد هذه الشركات خسائر كبيرة إذا لم تحترم ضوابطنا الشرعية.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبالنظر إلى الأسئلة السابقة مع هذا السؤال للأخ السائل، فإننا ننصحه بالرفق بنفسه، والبعد عن الوسوسة والتكلف الذي يوقع صاحبه في الحرج؛ فإن دين الله يسر، وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، والشرع مبناه على التخفيف والتيسير ..
هذا ما نصت عليه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، قال تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة/6] وقال عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة/185]، وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء/ 28] وقال سبحانه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة/286].
وقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة. رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. رواه البخاري. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا، وبشروا، ولا تنفروا. رواه البخاري. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ. رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
وقد جعل أهل العلم من القواعد الكلية في الفقه الإسلامي قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) وفرعوا منها أن: الأمر إذا ضاق اتسع.
وهذا يشمل أمر التداوي، ولذلك نص المحققون من أهل العلم على أن مصلحة التداوي، مقدمة على مصلحة اجتناب النجاسة إذا عدم غيرها.
كما قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهرا يقوم مقامها؛ لأن مصلحة العافية والسلامة، أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة، ولا يجوز التداوي بالخمر على الأصح، إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها، ولم يجد دواء غيرها. اهـ.
وقد نشر في مجلة مجمع الفقه الإسلامي: توصيات الندوة الفقهية الطبية التاسعة، عن الرؤية الإسلامية لبعض المشاكل الطبية، والتي تناولت عدة موضوعات، ومنها موضوع: الاستحالة والمواد الإضافية في الغذاء والدواء.
وقد ناقشت الجوانب الطبية والفقهية المتعلقة بهذا الموضوع، وخلصت إلى أن المواد الإضافية في الغذاء والدواء التي لها أصل نجس أو محرم، تنقلب إلى مواد مباحة شرعًا بإحدى طريقتين:
1- الاستحالة: ويقصد بها في الاصطلاح الفقهي: "تغير حقيقة المادة النجسة أو المحرم تناولها، وانقلاب عينها إلى مادة مباينة لها في الاسم والخصائص والصفات". ويعبر عنها في المصطلح العلمي الشائع، بأنها: كل تفاعل كيميائي، يحول المادة إلى مركب آخر.
2- الاستهلاك: ويكون ذلك بامتزاج مادة محرمة أو نجسة، بمادة أخرى طاهرة حلال، غالبة، مما يذهب عنها صفة النجاسة والحرمة شرعًا، إذا زالت صفات ذلك المخالط المغلوب من الطعم واللون والرائحة، حيث يصير المغلوب مستهلكًا بالغالب، ويكون الحكم للغالب، ومثال ذلك:
1- المركبات الإضافية التي يستعمل من محلولها في الكحول كمية قليلة جدًا في الغذاء والدواء، كالملونات والحافظات والمستحلبات مضادات الزنخ.
2 - الليستين والكوليسترول المستخرجان من أصول نجسة بدون استحالة، يجوز استخدامهما في الغذاء والدواء بمقادير قليلة جدًا، مستهلكة في المخالط الغالب، الحلال الطاهر.
3- الأنزيمات الخنزيرية المنشأ، كالببسين، وسائر الخمائر الهاضمة ونحوها، المستخدمة بكميات زهيدة مستهلكة في الغذاء والدواء الغالب. اهـ.
وبهذا، يتبين أنه مع افتراض صحة ما يظنه السائل، سواء في مادة الجيلاتين أو غيرها من المشتقات ذات الأصل الحيواني، فإن ذلك لا يعني بالضرورة حرمة استعمال الدواء المحتوي عليها، سواء من ناحية استهلاكها في الدواء إذا لم تستحل، أو من ناحية الرخصة في استعمالها مع نجاستها إذا تعسر تحصيل غيرها.
والله أعلم.