عنوان الفتوى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) هل هي محكمة أم منسوخة؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

في قوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة /184؟ هل آية الفدية منسوخة؟

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق

الحمد لله.

قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)) البقرة/183- 184.

قد اختلف المفسرون في قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ بين النسخ والإحكام .

حيث ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية كانت تخير المقيم الصحيح بين الصيام والإفطار، على أن يفدي بإطعام مسكين عن كل يوم يفطر فيه، ثم نسخها الله عز وجل بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ حيث أوجبت هذه الآية الصوم على الصحيح المقيم على التعيين، بعد أن كان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية.

وفي البخاري عن ابن عمر وسلَمةَ بن الأكْوَع: نسختْها آية شَهْرُ رَمَضَانَ .. ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين. 

وفي البخاري: "وقال ابن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - نزل رمضان، فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك. فنسختها وأن تصوموا خير لكم ".

وممن اختار أن الآية منسوخة الطبري، وأبو حيان، وابن كثير، وابن عاشور، وغيرهم.

وبيّن الطبري الحجة بقوله: " وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: "وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، منسوخٌ بقول الله تعالى ذكره: : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ "لأن"الهاء" التي في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ من ذكر"الصيام" ومعناه: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعامُ مسكين، فإذْ كان ذلك كذلك، وكان الجميعُ من أهل الإسلام مجمعينَ على أن من كان مُطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوْمَ شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين - كان معلومًا أنّ الآية منسوخةٌ.

هذا مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفًا عن مُعاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع: من أنهم كانوا - بعد نزول هذه الآية على عَهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه وسُقوط الفدية عنهم، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم؛ وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فألزموا فرضَ صومه، وبطل الخيار والفديةُ ".

وذهب جمعٌ من العلماء إلى أن الآية محكمة وغير منسوخة.

قال الطبري: " وقال آخرون - ممن قرأ ذلك ( وَعلى الذين يُطيقونه ) -: لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة، وقالوا: إنما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه - في حال شبابهم وَحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم - إذا مَرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم، فدية طعام مسكين = لا أنَّ القوم كان رُخِّص لهم في الإفطار - وهم على الصوم قادرون - إذا افتدوا.

روى السدي: "وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: أما الذين يطيقونه، فالرجل كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل، أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له.

وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إذا خَافت الحاملُ على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان، قال: يفطران ويطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا، ولا يقضيان صومًا.

وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أيضاً: أنه رَأى أمَّ ولدٍ له حاملا أو مُرضعًا، فقال: أنت بمنزلة الذي لا يُطيقه، عليك أن تطعمي مكانَ كل يوم مسكينُا، ولا قَضَاء عليك.

وعنه - رضي الله عنه - أيضاً قوله: "وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، هو الشيخ الكبير كان يُطيق صومَ شهر رمضان وهو شاب، فكبر وهو لا يستطيع صومَه، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطرَه، حين يُفطر وحينَ يَتسحَّر".

والذي يظهر والعلم عند الله:

إن الآية محكمة وليست منسوخة، وأن معنى (يطيقونه): لا يطيقونه؛ بتقدير "لا" النافية، وعليه فتكون الآية محكمة، ويكون وجوب الإطعام على العاجز عن الصوم، كالهرم والزمن.

وأما ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - في كون الآية منسوخة، فقد أزال الإشكال عنه القرطبي حيث يقول: " يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص، فكثيراً ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، وقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست منسوخة وأنها محكمة " .

ومن القواعد التي تعضد هذا الترجيح قاعدة: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره .. )، وسياق الآية في أوله يخاطب المكلفين بالصيام فالله تعالى يقول في الآية قبلها يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، أي فرض، وجاءت الآية بعد ذلك في أحكام المريض والمسافر وأنه إذا تعذر عليهما الصوم، فلهما القضاء في أيام أخر، فمن المفترض أن تكون الآية بعدها فيمن لا يقدرون على الصيام، كالهرم أو المرضع، الحامل.

وعليه يترجح، والله أعلم: أن الآية محكمة.

ومما يعضد هذا الترجيح أيضاً قاعدة ترجيحية أخرى، وهي: (تأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة في الآية)، وقد وردت قراءة لبعض الصحابة يُطَّوَّقونه بفتح الياء وتشديد الطاء والواو المفتوحين، بمعنى يتكلفونه مع عجزهم عنه. وعلى هذا القول، فيجب على الهرم ونحوه الفدية، وهو اختيار البخاري.

وكذلك ذكر الطبري أنه قرأ ذلك آخرون وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكانَ كلّ يوم أفطراه مسكينًا. وقالوا: الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت، لم تنسخ، وأنكروا قول من قال: إنها منسوخة.

ينظر: "قواعد الترجيح المتعلقة بالنص عند ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير - دراسة تأصيلية تطبيقية"، عبير النعيم: (475).

وينظر جواب السؤال (312933)، (49944)

والله أعلم.