عنوان الفتوى : تحديد القرون المفضلة وبيان أن ظهور طوائف البدع في أواخرها لا ينافي وصفها بالخيرية
الإسلام الحقيقي الأصلي الصحيح الآن هو القرآن والسنة النبوية، بفهم الصحابة والتابعين وأتباع التابعين (القرون الثلاثة المفضلة)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وبما أن القرون الثلاثة صارت على المنهج الصافي الصحيح، وزكّاها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلماذا ظهرت بعض الفرق في هذه القرون، سواء كانت أصحاب عبد الله بن سبأ، أو من قتل الحسين في كربلاء، أو الخوارج الذين خرجوا على عليّ، فكلهم كانوا في وقت وجود القرون الثلاثة، يعني أن الطوائف الضالة بدأت نشأة بعضها في أيام الخلفاء الراشدين، فكيف توصف بالخيرية؟ ثانيًا: بما أن معنى الجماعة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود ... وستفترق هذه الأمة ... وهي الجماعة)، هم الصحابة والتابعون، فلماذا نأخذ عن أتباع التابعين؛ إذ إنهم وصفوا بالخيرية فقط، ولم نؤمر بشكل صريح باتباعهم؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن ظهور طوائف البدع في أواخر عصر الصحابة، وفي عصر التابعين وأتباعهم، لا ينافي أبدًا وصف تلك القرون بالخيرية؛ إذ الوصف بالخيرية لا يقتضي خلو تلك العصور من البدع، وغيرها من أنواع الشرور، فزمن النبوة الذي هو خير القرون كان الكفر -الذي هو أعظم من مجرد البدعة- هو الغالب في الأرض، فهل ينافي ذلك وصف زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية؟!
وأما ما زعمته من أن معنى الجماعة في حديث الافتراق: ( الصحابة والتابعون فحسب)، فلا ندري ما حجتك على ذلك؟ والذي جاء في بعض روايات الحديث في بيان الجماعة: ما أنا عليه وأصحابي. -كما عند الحاكم في المستدرك، وحسنه الألباني - وليس فيه ذكر للتابعين أصلًا.
وأما الحجة في الاقتداء بأتباع التابعين: فهي نفس الحجة في الاقتداء بالتابعين، وهي ما جاء في النصوص من الثناء عليهم، ووصفهم بأنهم خير قرون الأمة، فالوصف بالخيرية من لوازمه كونهم أعلم وأتقى، وأقرب إلى الحق ممن بعدهم، وهذا المعنى كاف في مشروعية اتباع سبيلهم، وسلوك طريقهم، قال ابن تيمية: ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة - في الأعمال، والأقوال، والاعتقاد، وغيرها من كل فضيلة أن خيرها-: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة -من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان وعبادة-، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم. اهـ.
ويقول ابن تيمية في نص طويل في استقراء الروايات والنصوص الواردة في تحديد القرون المفضلة: زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم هي أعصار القرون الثلاثة المفضلة؛ التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من وجوه: {خير القرون القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الذين يلونهم؛ ثم الذين يلونهم}، فذكر ابن حبان بعد قرنه قرنين بلا نزاع، وفي بعض الأحاديث الشك في القرن الثالث بعد قرنه، وقد روي في بعضها بالجزم بإثبات القرن الثالث بعد قرنه، فتكون أربعة، وقد جزم بذلك ابن حبان البستي، ونحوه من علماء أهل الحديث في طبقات هذه الأمة، فإن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح.
أما أحاديث الثلاثة، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: {خير أمتي القرن الذين يلونني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته}، وفي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: {سأل رجل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الثاني؛ ثم الثالث}.
وأما الشك في الرابع؛ ففي الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: {إن خيركم قرني؛ ثم الذين يلونهم؛ ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا: ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون؛ ويخونون ولا يؤتمنون؛ وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن. وفي لفظ: خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الذين يلونهم؛ ثم الذين يلونهم. الحديث، وقال فيه: ويحلفون ولا يستحلفون. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: {خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الذين يلونهم - والله أعلم: أذكر الثالث أم لا؟ - ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا}.
وأما ما فيه ذكر القرن الرابع، فمثل ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: {يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم. ولفظ البخاري: ثم يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس} ولذلك: قال صلى الله تعالى عليه وسلم في الثانية والثالثة، وقال فيها كلها: صحب، ولم يقل رأى. ولمسلم من رواية أخرى: {يأتي على الناس زمان يبعث فيهم البعث، فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيوجد الرجل، فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثاني، فيقولون: هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يبعث البعث الثالث، فيقولون: انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ ثم يكون البعث الرابع، فيقال: انظروا هل ترون فيكم أحدًا رأى من رأى أحدًا رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيوجد الرجل، فيفتح لهم به}.
وفي الطريق الثاني لمسلم ذكر أربعة قرون، ومن أثبت هذه الزيادة قال: هذه من ثقة. وترك ذكرها في بقية الأحاديث لا ينفي وجودها، كما أنه لما شك في حديث أبي هريرة أذكر الثالث؟ لم يقدح في سائر الأحاديث الصحيحة التي ثبت فيها القرن الثالث. ومن أنكرها قال في حديث ابن مسعود الصحيح: أخبر أنه بعد القرون الثلاثة يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه؛ ويمينه شهادته، فيكون ما بعد الثلاثة ذكر بذم. وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين؛ فإنه قد يظهر الكذب في القرن الرابع. ومع هذا، فيكون فيه من يفتح به لاتصال الرؤية. اهـ. باختصار.
وراجع للفائدة حول السلف وأدلة وجوب اتباعهم، ولزوم طريقتهم الفتوى رقم: 203401، والفتوى رقم: 253357 وإحالاتها .
والله أعلم.