عنوان الفتوى : حكم من لم يهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة
الذين لم يهاجروا مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة. هل ارتدوا بسبب تركهم للهجرة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذين لم يهاجروا من الصحابة من مكة إلى المدينة إما أن يكونوا مستضعفين غير قادرين على الهجرة؛ فهؤلاء معذورون، ولا شيء عليهم، وإما أن يكونوا قادرين عليها لكنهم لم يهاجروا حتى ماتوا؛ فهؤلاء تاركون لواجب، وواقعون في ذنب عظيم، وخطيئة كبيرة، ولكنهم مسلمون على كل حال، وليسوا كفارًا ولا مرتدين بتركهم للهجرة.
وقد قال الله تعالى في حال هذين الفريقين من تاركي الهجرة: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا* إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا* فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا" [سورة النساء: 97 - 99]
وقد أخرج البخاري عن ابن عبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا- أنه قال: "إن أُناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيأتي السهم فيُرمى، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضربُه فيقتله، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)". انتهى. فسماهم ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- مسلمين، برغم هذا الوعيد الشديد.
ولذلك قال ابن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز): وهذه المقالة -يعني قوله تعالى: {فِيمَ كُنْتُمْ؟ قَالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ}- إنما هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء، وهي دالة على أنهم ماتوا مسلمين، وإلا فلو ماتوا كافرين، لم يقل لهم شيء من هذا. انتهى.
ومثل ذلك ما قاله القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن): وَيُفِيدُ هَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ مَاتُوا مُسْلِمِينَ، ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي تَرْكِهِمُ الْهِجْرَةَ، وَإِلَّا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء مِنْ هَذَا. انتهى.
والله أعلم.