عنوان الفتوى : هل يوجد تعارض بين الحث على دفاع المسلم عن أرضه وبين وجوب الهجرة من الأوطان
ما الفرق بين حديث: "من مات دون أرضه ... و بين آية: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا"؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا لم نطلع في شيء من كتب السنة التي بين أيدينا على حديث بهذا اللفظ, وإذا كان السائل يقصد الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد. على اعتبار دخول الأرض في المال, أو ما رواه النسائي: من قتل دون مظلمته فهو شهيد. وما وجه الجمع بينه وبين ما دلت عليه الآية من وجوب الهجرة من الأوطان؟
فالجواب عن هذا: أن الهجرة إذا وجبت يجب تقديمها على الوطن والمال, وغيرهما, فقد توعد الله تعالى من قدم محبة الأوطان والأموال على محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة إليه، كما قال تعالى في الآية التي تليها قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ {التوبة:24}.
قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ. نقلًا عن الضحاك: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة, وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع وبنص الآية، حيث يقول الله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) أي: بترك الهجرة, (قالوا فيم كنتم) أي: لما مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة, (قالوا كنا مستضعفين في الأرض) أي: لا نقدر على الخروج من البلد, ولا الذهاب في الأرض (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة… الآية. انتهى.
قال القرطبي: يفيد هذا السؤال والجواب أنهم كانوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا. اهـ
وقال الشوكاني: وقد استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك, أو دار يعمل فيها بمعاصي الله جهارًا، إذا كان قادرًا على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين. انتهى.
وإذا هاجر المسلم محتسبًا فسيعوضه الله تعالى خيرًا مما تركه لله كما قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {النساء:100}، وقال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {النحل:41}،وقد حصل مثل هذا لصهيب الرومي فقد هاجر وترك ماله لقريش, فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بربح الصفقة, كما روى الحاكم في المستدرك عن عكرمة قال: لما خرج صهيب مهاجرًا تبعه أهل مكة, فنثل كنانته, فأخرج منها أربعين سهمًا, فقال: لا تصلون إليّ حتى أضع في كل رجل منكم سهمًا, ثم أصير بعد إلى السيف, فتعلمون أني رجل, وقد خلفت بمكة قينتين فهما لكم، قال: وحدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس نحوه, ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ {البقرة:207} فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا يحيى, ربح البيع, وتلا عليه الآية. قال الحاكم عقبه: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وسكت عنه الذهبي في التلخيص.
ورواه الحاكم أيضًا من طريق أخرى عن سعيد بن المسيب عن صهيب موصولًا، وقال الحاكم عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: صحيح.
والله أعلم.