عنوان الفتوى : أسيد بن حضير وقول النبي عليه الصلاة والسلام له: (وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ)
هناك حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول للصحابيّ أنه لو استمرّ في تلاوة سورة البقرة لكانت الملائكة في السُّحُب تنزل لسماع تلاوة الصحابي، وكان من الممكن أن يراها النّاس في الصباح. فماذا يعني هذا؛ لأنّي أعرف أنّ الملائكة لا يمكن أن يراها البشر، إلا إذا كانت الملائكة في شكل بشريّ؟
الحمد لله.
أولا:
ليس للبشر قدرة على رؤية الملائكة على هيئتها
أشار القرآن الكريم إلى أن البشر ليس لهم من القدرة ما يمكنهم بها رؤية الملائكة على هيئتها.
قال الله تعالى:( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) الأنعام/9.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا رسولنا إلى هؤلاء العادلين بي، القائلين: لولا أنزل على محمّد ملك بتصديقه ملكا ينزل عليهم من السماء، يشهد بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم باتباعه ؛ ( لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا )، يقول: لجعلناه في صورة رجل من البشر، لأنهم لا يقدرون أن يروا الملك في صورته.
يقول: وإذا كان ذلك كذلك، فسواء أنزلت عليهم بذلك ملكا ، أو بشرا، إذ كنت إذا أنزلت عليهم ملكا ، إنما أنزله بصورة إنسيّ، وحججي في كلتا الحالتين عليهم ثابتة: بأنك صادق، وأنّ ما جئتهم به حق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل... " انتهى من"تفسير الطبري" (9 / 162).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" أي: لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا، لكان على هيئة الرجل ; لتمكنهم مخاطبته، والانتفاع بالأخذ عنه؛ لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من شدة النور" انتهى من"أضواء البيان" (2 / 218).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الآية السابقة:
" فبين سبحانه أنه لو أنزل ملكا ، لم يمكنهم أن يروه إلا في صورة بشر، كما كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه الناس في صورة دحية الكلبي، أو في صورة أعرابي لما أتاه وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، وكذلك لمّا أتوا إبراهيم ولوطا ورأتهم سارة وقوم لوط لم يأتوا إلا في صورة رجال، وكذلك لما أتى جبريل مريم عليها السلام لينفخ فيها ، أتاها في صورة رجل، قال تعالى: ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً ، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً ) " انتهى من"الرد على المنطقيين" (ص 539).
ثانيا:
أسيد بن حضير واستماع الملائكة لقراءته للقرآن
وأمّا حديث أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، قَالَ: ( بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ، إِذْ جَالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ المَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا، قَالَ: وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: تِلْكَ المَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ ) رواه البخاري (5018)، ومسلم (796).
ففيه دليل على إمكانية رؤية بعض المسلمين للملائكة، لكن لا يلزم من هذا أنها كانت على هيئتها، فيحتمل أنها تنزلت على هيئة يستطيع البشر رؤيتها، كما كانت تأتي الملائكة إلى الأنبياء وغيرهم.
كما في حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: " أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: (مَنْ هَذَا؟)
قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، قال فقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ! مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عن جِبْرِيلَ" رواه البخاري (3634)، ومسلم (2451).
قال ابن بطال رحمه الله تعالى في شرحه لحديث أسيد:
" وفيه جواز رؤية بنى آدم للملائكة ، إذا تصورت في صورة يمكن للآدميين رؤيتها، كما كان جبريل صلى الله عليه وسلم يظهر للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل فيكلمه، وكثيرا ما كان يأتيه في صورة دحية الكلبي"انتهى من "شرح صحيح البخاري" (10/254).
وقال ابن الملقن، رحمه الله: " وفيه؛ جواز رؤية بني آدم الملائكة إذا تصوروا في صور يمكن للآدميين رؤيتها كما جرى يوم بدر وغيره، وكان جبريل يظهر في صورة رجل فيكلمه، وكثير ما كان يأتيه في صورة دحية. وهو للمؤمنين رحمة وللكفار عذاب " انتهى من"التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (24/94-95).
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم: (234342).
والله أعلم.