عنوان الفتوى : ضوابط التكفير في استحسان المعصية
ما معنى اعتقاد أن المعصية حسنة أو استحسان المعصية الذي هو كفر؟ وهل معناه زوال البغض الشرعي للمعصية؟ وهل ينطبق ذلك على من أبغض أمراً مباحاً بغضاً شرعياً؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاستحسان المعصية إنما يكون كفرا إذا كان في معنى استحلالها والرضا بها، واعتقاد بطلان الحكم بتحريمها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم.
وقال أيضا صلوات الله وسلامه عليه: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. رواه مسلم.
قال القاضي البيضاوي في شرح مصابيح السنة: قوله: ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ـ معناه: أن أدنى مراتب الإيمان أن لا يستحسن المعاصي ويكرهه بقلبه... فإذا زال ذلك حتى استصوب المعاصي, وجوز التدليس على الخلق والتلبيس في الحق, خرج من دائرة الإيمان خروج من استحل محارم الله، واعتقد بطلان أحكامه. اهـ.
ونقل ذلك القاري في المرقاة، والخادمي في بريقة محمودية، وارتضياه، وقال المظهري في شرح المصابيح: يعني: من لم ينكرهم بقلبه بعد العجز عن جهادهم بيده ولسانه، فلم يكن حبة خردل من الإيمان، لأن المؤمن ينكر الكفر والعصيان، فمن لم ينكرهما فقد رضي بهما، والرضى بالكفر كفر. اهـ.
وقال الطيبي في شرح المشكاة: من لم ينكر بالقلب رضي بالمنكر، والرضى بالمنكر كفر. اهـ.
وقال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد: الكراهة هي أضعف الإيمان، وأما الرضا بالمنكر والمتابعة عليه، فهو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح. اهـ.
وعلى ذلك؛ فتعليق الكفر ليس بفعل المعصية، وإنما هو باستحلالها والرضا بها، واعتقاد بطلان الحكم بتحريمها، بخلاف ما لو استحسنها الطبع، للميل لها واشتهائها، مع الجزم بحرمتها وقبحها ونكارتها، كما هو حال المسلم عند فعل المعصية، وهذا التفصيل لا بد منه، وعليه جرى كلام أهل العلم، قال ابن الملقن في المعين على تفهم الأربعين: معنى أضعف الإيمان ـ أقل ثمراته، إذ فيه الكراهة فقط، وقد جاء في رواية: وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ـ أي: لم يبق وراء هذه المرتبة مرتبة أخرى، لأنه إذا لم يكرهه بقلبه فقد رضي بالمعصية، وليس ذلك شأن أهل الإيمان، بل هو كفرٌ إن اعتقدَ جوازَهُ، وإن رَضِيَ به لغلبة الهوى والشهوة مع اعتقاد تحريمه، فهو فاسق. اهـ.
وبهذا يتضح أن الحب الطبعي والبغض الشرعي يجتمعان في المعصية عند الشخص الواحد، فإن كان فاسقا غلبه الحب الطبعي للمعصية فيؤثره على بغضه الشرعي لها، بسبب ضعف إيمانه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن. رواه الشيخان.
أي: وهو كامل الإيمان، بل إيمانه ناقص ضعيف، فلم يقو على حمل صاحبه على ترك ما تهواه نفسه وتحبه وتميل إليه طبعا، إيثاراً لما يحبه شرعا، وهو ترك المعصية طاعة لله تعالى، وراجع في معنى هذا الحديث الفتوى رقم: 50018.
والله أعلم.