عنوان الفتوى : حب الوطن.. رؤية إيضاحية شرعية
ما حكم كراهية الوطن: هل هو جائزٌ أم مُحَرَّمٌ؟ فأنا أجد هذا الشعور بداخلي؛ لكثرة ما أرى في بلادي من الظلم، وتَفَشِّى الجهل، وانتشار الفقر، وفساد الأخلاق، ورؤيتي لما تبدَّد من طاقاتٍ وأحلامٍ لشبابٍ طموحٍ على أراضيها، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي وَلَّدَت بقوةٍ هذا الشعور بداخلي، وأصبحت أريد أن أسافر، وأذهب إلى أي مكانٍ آخر بعيدًا عنها. فهل علىَّ إثمٌ في ذلك؟ علمًا بأنَّ ذلك بالطَّبع لا يؤثر أبدًا في حبِّي للإسلام وأهله، وهل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن حبِّه لمكة، وكراهية خروجه منها، دليلٌ على وجوب حبِّ الأوطان، وعدم جواز بغضها؟ علمًا بأنِّي وجدت من يقول بأنَّ هذا الحديث استدلَّ به الجمهور على أنَّ مكة أفضل من المدينة، وأنَّه لا يُقصَد به حبُّ الوطن، وإنَّما حبُّ مكَّة؛ لكونها مكانًا مقدَّسًا، أفضل من غيرها من الأماكن، كما أعلم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يجعل حبَّه للمدينة، كحبِّه لمكَّة أو أشدَّ. فهل هذا الحديث فيه إشارةٌ لوجوب، أو استحباب حبِّ الوطن، وهل هناك من أهل العلم من قال بذلك؟ أفيدوني بارك الله فيكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد سبق أن نبهنا على أن حب الوطن غريزة لا يتعلق بذاتها الإيمان، وذلك في الفتوى رقم: 190751.
والمقصود أن محبة الأوطان جبلة في البشر، وهي مشروعة من حيث الأصل، وقد علق الحافظ ابن حجر على حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدرات المدينة، أوضع ناقته، وإن كان على دابة حركها، من حبها.
فقال في (فتح الباري): وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن، والحنين إليه. اهـ.
وفي هذا استعمال للوطن، لا لمعنى مكان الولادة والنشأة، وإنما لمعنى مكان العيش والإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استوطن المدينة بعد هجرته من مكة أرض ولادته، ونشأته وبعثته.
جاء في مختار الصحاح: (الوطن) محل الإنسان. اهـ.
وقال الفيروزآبادي في القاموس المحيط: (الوطن) منزل الإقامة. اهـ.
وفي هذا توسيع لمعنى الوطن عما تعارف عليه الناس اليوم.
وبالنسبة للمسلم: فإن وطنه هو أرض الإسلام ولو كانت بعيدة، وأحب البلاد إليه أحبها إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما أسلم ثمامة بن أثال ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم مسجده قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا محمد، والله، ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي. والله، ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي. والله، ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي. رواه البخاري ومسلم.
قال الشيخ محمد إسماعيل المقدم في محاضرة (الهوية الإسلامية): الهوية الإسلامية تحدد بقعة المحبة لكل شخص في قلبك، وأوليات هذه المحبة، وترتيب ذلك. وكذلك بالنسبة للأوطان، فأحب الأرض إلى المؤمن في هذه الدنيا هي أولاً مكة المكرمة، ثم المدينة النبوية، ثم بيت المقدس، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن محبته مكة المكرمة مبنية على أنها أحب بلاد الله إلى الله، وبعض الناس الذين يتبنون المفهوم الوثني للوطنية، يحاولون أن يستدلوا بالحديث على ما يدعون إليه، حيث يحاولون أن يغذوا مفهوم الوطنية الوثنية بالحديث، ويقولون هذا دليل على حب الوطن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حنَّ إلى مكة، وقال: "لولا أن قومكِ أخرجوني منكِ، ما خرجت". وهذا ليس دليلاً على حب الوطن، وإنما هو دليل على حب مكة؛ لأن مكة أحب بلاد الله إلى الله، فلذلك كل مسلم يحب مكة المكرمة قبل أي مكان آخر على وجه الأرض، وكذلك المدينة النبوية الطيبة، وكذلك بيت المقدس الذي بارك الله حوله؛ فمحبتنا لهذه البقاع التي اختارها الله وباركها وأحبها، فوق محبتنا لمسقط رؤوسنا، ومحضر الطفولة، ومرتع الشباب.
أما ما عدا هذه البلاد المقدسة فإن الإسلام هو وطننا، وهو أهلنا، وهو عشيرتنا؛ وحيث تكون شريعة الإسلام حاكمة، وكلمة الله ظاهرة، فثمَّ وطننا الحبيب الذي نفديه بالنفس والنفيس، ونذود عنه بالدم والولد والمال. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: ما يذكر من أن "حب الوطن من الإيمان" وأن ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذب. حب الوطن إن كان لأنه وطن إسلامي، فهذا تحبه لأنه إسلامي. ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك، أو الوطن البعيد من بلاد المسلمين؛ كلها وطن الإسلام يجب أن نحميه. اهـ.
وقال الدكتور يوسف الداودي في (الجامع الصحيح فيما كان على شرط الشيخين أو أحدهما، ولم يخرجاه): ذهب بعض من ليس لهم فقه، إلى أن الحديث دليل على حب الوطن، وليس فيه ما ذهبوا إليه؛ فإن رسول الله بيَّن علة حبه لمكة، وأنها أحب أرض الله إلى الله عز وجل، وبهذا ظهر تدليس من أثبت أن نعرة الوطنية من الإسلام. اهـ.
وإذا تقرر هذا عرف جواب السائل، وأنه لا يأثم المرء على عدم محبته لوطنه، ولاسيما إذا كان على الحال التي وصف السائل. وأن المطلوب شرعا في قدر محبة المسلم لوطنه: أن يكون بحسب قيام هذا الوطن وأهله بطاعة الله، والاستقامة على شريعته الجامعة لمكارم الأخلاق، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90].
وهنا نلفت النظر إلى معنى هام، نبه عليه غير واحد من أهل العلم، منهم ابن علان في (دليل الفالحين) فقال: الوطن الحقيقي هو الدار الآخرة، التي لا نهاية لآخرها بإرادة الله تعالى وقدرته، كما جاء في الحديث: «يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت». قال بعضهم: هذا هو المراد من حديث «حبّ الوطن من الإيمان». اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة، الفتاوى التالية أرقامها: 38887، 130560، 116106.
والله أعلم.