عنوان الفتوى : نقض القضاء ونفاذه وجرائم التعزير
ما هي مسوغات النفاذ في أحكام القضاة؟ وما هي جرائم التعزير والنظريات العقابية الحديثة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد نص الفقهاء - رحمهم الله - في كتاب القضاء على أن حكم القاضي نافذ ما لم يصادم نص كتاب أو سنة، ونقصد بالنص: ما كان لا يقبل إلا قولاً واحدًا. أما ما كان محتملاً لوجوه، ولأهل العلم فيه كلام فلا ينقض حكم القاضي بمخالفته، وكذلك ينقض قضاء القاضي إذا خالف الإجماع، ومعنى الإجماع: هو اتفاق مجتهدي أمة النبي صلى الله عليه وسلم في عصر من الأعصار على مسألة من المسائل، وينقض حكم القاضي أيضاً: إذا خالف القياس الجلي، وما عدا ذلك فحكم الحاكم فيه نافذ. وأما التعزير بالمال، فذهب إلى منعه وحرمته الجماهير من العلماء، ومن أولئك الحنفية والشافعية وأكثر الحنابلة، وذهب المالكية إلى التفصيل قال الدسوقي في حاشيته: قوله: (وتصدق بما غش) أي جوازًا لا وجوباً، خلافاً لعبق - أي عبد الباقي - لما يذكره المصنف آخرًا من قوله، ولو كثر، فإن هذا قول مالك، والتصدق عنده جائز لا واجب، وما ذكره المصنف من التصدق هو المشهور، وقيل: يراق اللبن ونحوه من المائعات وتحرق الملاحف والثياب الرديئة النسج، قاله ابن العطار وأفتى به ابن عتاب. وقيل: إنها تقطع خرقاً خرقاً وتعطى للمساكين، وقيل: لا يحل الأدب بمال امرئ مسلم، فلا يتصدق به عليه ولا يراق اللبن ونحوه، ولا تحرق الثياب ولا تقطع الثياب ويتصدق بها، وإنما يؤدب الغاش بالضرب. حكى هذه الأقوال ابن سهل. قال ابن ناجي: واعلم أن هذا الخلاف إنما هو في نفس المغشوش هل يجوز الأدب فيه أم لا؟ وأما لو زنى مثلاً فلا قائل في ما علمت أنه يؤدب بالمال، وإنما يؤدب بالحد، وما يفعله الولاة من أخذ المال فلا شك في عدم جوازه. وقال الونشريسي: أما العقوبة بالمال فقد نص العلماء على أنها لا تجوز، وفتوى البرزلي بتحليل المغرم لم يزل الشيوخ يعدونها من الخطأ. انتهى كلام الدسوقي. وقال الصاوي في حاشيته: (وتصدق بما غش) أي وأما التعزير بأخذ المال فلا يجوز إجماعاً، وما روي عن الإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة من جواز التعزير للسلطان بأخذ المال، فمعناه كما قال البرادعي - من أئمة الحنيفة - أن يمسك المال عنده مدة لينزجر ثم يعيده إليه لا أنه يأخذ لنفسه أو لبيت المال كما يتوهمه الظلمة. اهـ وفي فتح الجليل: والخلاف في طرح المغشوش والتصدق به وحرق الملاحف الرديئة النسج وشبه ذلك، إنما هو من باب العقوبة في المال لا من العقوبة به. اهـ وذهب إلى جواز التعزير بالمال ابن تيمية وابن القيم واستدل كل فريق بأدلة تراجع في محالها من كتب الفقهاء في باب التعزير. وأما حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، الذي استدل به من قال بالعقوبة بالمال: ومن منعها - أي الزكاة - فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا. رواه أبو داود والدارمي وغيرهما. فأجاب عنه الجماهير بجوابين: الأول: أنه منسوخ. قال الإمام الحافظ الطحاوي الحنفي في كتابه شرح معاني الآثار، بعد أن ذكر هذا الحديث - أعني حديث بهز وغيره من الآثار - : فكانت العقوبات جارية في ما ذكر في هذه الآثار على ما ذكر فيها حتى نسخ ذلك بتحريم الربا، فعاد الأمر إلى أن لا يؤخذ ممن أخذ شيئًا إلا مثل ما أخذ، وإن العقوبات لا تجب في الأموال بانتهاك الحرمات التي هي غير أموال، فحديث سلمة عندنا كان في الوقت الأول، فكان الحكم على من زنا بجارية امرأته مستكرهاً لها عليه أن تعتق عقوبة له في فعله ويغرم مثلها لامرأته... الجواب الثاني: ضعف الحديث. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود: وهو عندي حجة - أي بهز - لا عند الشافعي، فإن اعتمد من قلد الشافعي على هذا كفاه، ويؤيده إطباق فقهاء الأمصار على ترك العمل به، فدل على أن له معارضًا راجحاً، وقول من قال بمقتضاه يعد في ندرة المخالف. انتهى كلام الحافظ رحمه الله. وننبه هنا إلى أمر، وهو: أن من أجاز التعزير بالمال جعل ذلك من حق السلطان تجاه من منع حقًّا لله أو أخذ حق غيره، فلا يصح أن يتعدى بالتعزير حده ومكانه فيعاقب الأجير مثلاً على تركه عمل يوم بخصم أجرة يومين، فهذا من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل. وعموماً فكل العقوبات والتعزيرات الحديثة يجب ردها إلى نصوص الشرع، فما أذن به الشرع قُبِلَ، وإلا فهو باطل. والله أعلم.