عنوان الفتوى : حكم بناء بيوت العبادة لغير المسلمين في بلاد الإسلام
ما حُكْم الدين في بناء بيوت العبادة لغير المسلمين في بلاد الإسلام؟
1 ـ روى أحمد وأبو داود عن ابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: “لا تصلح قبلتان في أرض، وليس على مسلم جزية” قال الشوكاني “نيل الأوطار ج 8 ص 64” : سكت عنه أبو داود، ورجال إسناده مُوَثقون. وقال المنذري: أخرجه الترمذي، وذكر أنه مرسل، لكن له شواهد كثيرة. قال صاحب المنتقى بعد إيراد هذا الحديث: وقد احتج به على سقوط الجزية بالإسلام، وعلى المنع من إحداث بيعة أو كنيسة.
2 ـ وروى ابن عدي عن عمر بن الخطاب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ “لا تُبْنَى كنيسة في الإسلام ولا يُجدد ما خُرِّبَ منها”.
3 ـ وروى البيهقي عن ابن عباس قال: كلُّ مَصْرٍ مَصَرَه المسلمون لا تُبنى فيه بيعة ولا كنيسة ولا يُضرب فيه ناقوس ولا يُباع فهي لحمُ خنزير. وهو ضعيف.
4 ـ أخرج البيهقي: كتب إلينا عمر : أدِّبو الخيل، ولا يُرفع بين ظهرانيكم الصليب ولا تجاوركم الخنازير. وسنده ضعيف.
ولا يحدثون ذلك في بلدة فُتَحِت عَنْوَة كمصر (وهي مصر القديمة) وأصبهان؛ لأن المسلمين ملكوها بالاستيلاء، فيمتنع جعلها كنيسة، وكما لا يجوز إحداثها لا تجوز إعادتها إذا انهدمت، ولا يُقرون على كنيسة كانت فيه (أي فيما فتح عَنوة) لما مرَّ.
ولو فتحنا البلد صُلحًا كبيت المقدس بشرط كون الأرض لنا وشرط إسكانهم فيها بخراج أو إبقاء الكنائس أو إحداثها جاز؛ لأنه إذا جاز الصُّلح على أن كلَّ البلد لهم فعلى بعضه أوْلى، فلو أُطْلِق الصلح ولم يُذكر فيه إبقاء الكنائس ولا عدمه فالأصح المنع من إبقائها، فيهدم ما فيها من الكنائس؛ لأن إطلاق اللفظ يقتضي صيرورة جميع البلد لنا.
أو بشرط الأرض لهم ويُؤدون خراجها قررت كنائسهم؛ لأنها مِلكهم ولهم الإحداث في الأصح.
1 ـ جاء في كتاب “الإقناع” للخطيب وحاشية عوض عليه (ج2 ص 265، 266) في فقه الشافعية: أنه يُمنع أهل الذِّمة من إحداث كنيسة وبَيْعَة وصَوْمَعَة للرُّهْبَان في بلد أحدثناه كبغداد والقاهرة (المُسماة بمصر الآن) أو أسلم أهله عليه كالمدينة الشريفة واليمن، لمَا رُوي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “لا تُبْنَى كنيسة في الإسلام” ولأن إحداث ذلك معصية، فلا يجوز في دار الإسلام. فإن بنوا ذلك هُدِمَ، سواء شرط عليهم أم لا.
2 ـ وجاء في تفسير القرطبي (ج 12 ص 70) وهو مالكي المذهب، في المسألة الخامسة، قال ابن خويزمنداد: تضمن هذه الآية ـ وهي آية (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ…) (سورة الحج : 40) المنع من هدم كنائس أهل الذِّمة وبِيَعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعًا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يُصلُّوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها، ويُنقض ما وجد في بلاد الحرب من البِيَع والكنائس، وإنما لم ينقض ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة؛ لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة، ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة؛ لأن في ذلك إظهار أسباب الكفر.
3 ـ وجاء في كتاب المُغْني (ج 10 ص 609) لابن قدامة الحنبلي: في أقسام أمصار المسلمين الثلاثة:
أحدها: ما مَصَّره المسلمون ، كالبصرة والكوفة وبغداد وواسط، فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بَيْعَة ولا مجتمع لصلاتهم، ولا يجوز صُلْحُهُم على ذلك، بدليل ما رواه أحمد عن ابن عباس: أيما مصر مصَّرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا، ولا يتخذوا فيه خنزيرًا… وما وُجِدَ في هذه البلاد من البِيَع والكنائس مثل كنيسة الروم في بغداد فهذه كانت في قُرى أهل الذِّمة فأقرت على ما كانت عليه.
والقسم الثاني: ما فتحه المسلمون عَنوة، فلا يجوز إحداث شيء من ذلك فيه؛ لأنها صارت مِلْكًا للمسلمين ، وما كان فيه من ذلك ففيه وجهان: أحدهما يجب هدمه وتحْرُم تبقيته، والثاني يجوز؛ لأن حديث ابن عباس يقول: أيما مصر مَصَّرته العَجَم ففتحه الله على العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم، ولأن الصحابة فتحوا كثيرًا من البلاد عَنْوَة فلم يهدموا شيئًا من الكنائس، ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبِيَع في البلاد التي فُتِحَتْ عَنْوَة. ومعلوم أنها ما أحدثت، فيلزم أن تكون موجودة فأبقيت. وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ألا يهدموا بَيْعَة ولا كنيسة ولا بيت نار، ولأن الإجماع قد حصل على ذلك. فإنها موجودة في بلد المسلمين من غير نكير.
الثالث: ما فُتِح صلحًا وهو نوعان، أحدهما أن يصالحهم على أن الأرض لهم، ولنا الخراج عنها، فلهم إحداث ما يحتاجون فيها؛ لأن الدار لهم، الثاني أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويُؤدون الجِزْيَة إلينا، فالحكم في البِيَع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم، من إحداث ذلك وعمارته؛ لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكلَّ لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم، ويكون موضع الكنائس والبِيَع معنا، والأولى أن يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر ـ رضي الله عنه ـ ويشترط عليهم الشروط المذكورة في كتاب عبد الرحمن بن غنم: ألا يحدثوا بَيْعَة ولا كنيسة ولا صومعة راهب ولا قلَّاية.
وإن وقع الصلح مُطلقًا من غير شرط حُمِلَ على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه فأما الذين صالحهم عمر وعقد معهم الذِّمة فهم على ما في كتاب عبد الرحمن بن غنم مأخوذون بشروطه كلها. وما وُجِدَ في بلاد المسلمين من الكنائس والبِيَع فهي على ما كانت عليه في زمن فاتحيها ومن بعدهم وكل موضع قلنا يجوز إقرارها لم يَجُزْ هدمها، ولهم رَمُّ ما تشعث منها وإصلاحها ؛ لأن المنع من ذلك يُفضي إلى خرابها وذهابها، فجرى مجرى هدمها، وإن وقعت كلها لم يَجُزْ بِنَاؤهَا، وهو قوْل بعض أصحاب الشافعي، وعن أحمد أنه يجوز، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأنه بناء لما استهدم فأشبه بناء بعضها إذا انهدم ورُمَّ شَعَثُها ، ولأن استدامتها جائزة، وبناؤها كاستدامتها، وحَمَل الخلال قول أحمد: لهم أن يبنوا ما انهدم منها، أي إذا انهدم بعضها، ومنعه من بناء ما انهدم، على ما إذا انهدمت كلها، فجمع بين الروايتين.
4 ـ وجاء في كتاب “تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي ج 3 ص 279”: ولا تحدث بيعة ولا كنيسة في دارنا، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام “لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة” والمراد بالنهي عن الكنيسة إحداثها، أي لا تحدث في دار الإسلام كنيسة في موضع لم تكن فيه، ويعاد المُنْهَدِم من الكنائس والبِيَع القديمة؛ لأنه جرى التوارث من لَدُن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يومنا هذا بترك الكنائس في أمصار المسلمين، ولا يقوم البناء دائماً، فكان دليلاً على جواز الإعادة، ولأن الإمام لما أقرَّهم عَهِدَ إليهم الإعادة؛ لأن الأبنية لا تبقى دائمًا، ولا يُمَكَّنون من فعلها في موضع آخر؛ لأنه إحداث في ذلك الموضع حقيقة… وهذا في الأمصار دون القُرى؛ لأن الأمصار هي التي تُقام فيها شعائر الإسلام. فلا يعارض بإظهار ما يخالفها. ولهذا يمنعون من بيع الخمر الخنازير فلا يعارض بإظهار ما يخالفها. ولهذا يمنعون من بَيْع الخمر والخنازير وضَرْب الناقوس خارج الكنيسة في الأمصار لما قلنا. ولا يمنعون من ذلك في قرية لا تُقام فيها الجُمَع والحدود وإن كان فيها عدد كثير؛ لأن شعائر الإسلام فيها غير ظاهرة، وقيل يُمنعون في كلِّ موضع لم تشع فيه شعائرهم؛ لأن في القُرى بعض الشعائر، فلا تعارض بإظهار ما يخالفها من شعائر الكُفْر. والمروي عن أبي حنيفة كان في قُرى الكوفة؛ لأن أكثر أهلها أهل الذِّمة. وفي أرض العرب يُمنعون من ذلك كلِّه، ولا يُدخلون فيها الخمر والخنازير.
وفي الهامش لشهاب الدين أحمد الشلبي “ص 280” قال في الفتاوى الصُغرى: إذا أرادوا إحداث البِيَع والكنائس في الأمصار يمنعون بالإجماع، وأما في السَّوَاد ذكر في العُشْر والخراج أنهم يمنعون، وفي الإجارات أنهم لا يُمنعون. واختلف المشايخ فيه، قال مشايخ بَلْخ: يُمنع. وقال الفضلي ومشايخ بُخَارى: لا يُمنع. وذَكَرَ السَّرَخْسي في باب إجارة الدُّور والبيوت ممن شرح الإجارات : الأصح عندي أنهم يُمنعون عن ذلك في السَّوَاد. وذكر هو في السير الكبير فقال: إن كانت قرية غالب أهلها أهل الذِّمة لا يُمنعون، وأمَّا القرية التي سكنها المسلمون اختلف المشايخ فيها على نحو ما ذكرنا.
وهل تُهْدَم البِيَع القديمة في السواد؟ على الروايات كلها لا، أما في الأمصار ذكر في الإجارات أنها لا تُهْدَم البِيَع القديمة بل تُتْرَك، وذكر في العُشْر والخراج أنها تُهْدَم. أهـ.