عنوان الفتوى : ما أثر تعلم صفات الله تعالى على العقل؟
ما أثر تعلم صفات الله تعالى على العقل؟
الحمد لله.
أولا: أعظم ما جاء الوحي لبيانه هو معرفة الله تعالى بصفاته
معرفة الله سبحانه وتعالى بصفاته العلى، هي أعظم ما جاء الوحي لبيانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته، أعظم قدرا من آيات المعاد، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي المتضمنة لذلك.
كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لأبي بن كعب: ( أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )، فضرب بيده في صدره، وقال ليهنك العلم أبا المنذر.
وأفضل سورة، سورة أم القرآن، كما ثبت ذلك في حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه لم ينزل في التوراة ولا الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته )، وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) تعدل ثلثي القرآن.
وثبت في الصحيح أنه بشّر الذي كان يقرؤها ويقول: إني لأحبها لأنها صفة الرحمن: بأن الله يحبه.
فبيّن أن الله يحب من يحب ذكر صفاته سبحانه وتعالى، وهذا باب واسع " انتهى من "درء تعارض العقل والنقل" (5 / 310 - 312).
والقرآن أتى للدلالة على أهدى طريق وأعدله وأصوبه.
قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الإسراء/9.
فهذا يقطع بأن معرفة صفات الله تعالى هي أهدى سبيل للعقل البشري، وأن الجهل بها والإعراض عنها هو سبب فساده وشقائه.
والشرع والواقع يقطعان بأن معرفة صفات الله تعالى هي السبيل الوحيد لصلاح العقل وسلامته.
ثانيا: كلما ازدادالإنسان معرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته كلما ازداد عقلاً وحكمة
فالإنسان كلما ازداد معرفة بالله تعالى بصفاته وأسمائه، ازداد سدادا وسلامة في الاستدلال والتصرف، وكلما ازداد الشخص معرفة بالله تعالى ازداد عقله وحكمته.
قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ العنكبوت/43.
ولا شك أن العالمين هم العارفون بالله تعالى بصفاته وأسمائه.
قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ محمد/19.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى.
" لا يستقر للعبد قدم في المعرفة - بل ولا في الإيمان - حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرفها: هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فمن جحد الصفات ، فقد هدم أساس الإسلام والإيمان وثمرة شجرة الإحسان، فضلا عن أن يكون من أهل العرفان " انتهى من "مدارج السالكين" (5 / 3616).
والجاهل بصفات الله تعالى والمعرض عن الإيمان بها والعمل على مقتضاها، خال من المعارف النافعة له فيما يبقى ، بل هو أضل من الأنعام ؛ وإن اشتغل من علوم الدنيا وظواهرها بما اشتغل به ، وفرح منها بما يفرح به أهلها .
قال الله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ الروم/6-7 .
وقال تعالى : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ، وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الأعراف/179 - 180.
وقال الله تعالى عن المشركين: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا الفرقان/44.
ثالثا: العلم بصفات الله والإيمان بها ترشد المؤمن إلى طريق العدل
العلم بصفات الله تعالى ، والإيمان بها ، والتفقه في معانيها وما تقتضيه، تقي عقل المسلم من سبيلي الإفراط والتفريط، الغلو والتساهل، وترشده إلى طريق العدل.
فالمتشبث فقط بصفات الله تعالى ، الدالة على عزته تعالى وقوته ، وأنه شديد العقاب والمعرض عن باقي صفاته تعالى، قد يؤدي هذا بالإنسان إما إلى الغلو فلا يرى المسلمين من أهل الذنوب إلا في النار، أو إلى القنوط واليأس.
ومن تشبث فقط بصفاته تعالى الرحيم الرحمن الكريم، فربما أدى به هذا إلى التساهل في المحرمات وربما استحلالها.
والمؤمن الحق الذي يؤمن بجميع صفات الله تعالى، فإنه يجمع بين الإيمان بالصفات التي تردعه عن الذنوب، وبين الإيمان بالصفات التي تنبت الرجاء في قلبه، كما في قوله تعالى:
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ غافر/2 - 3.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن.
والمقصود : أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب، فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ، ورده إليها كلما شرد؛ كالخائف الذي معه سوط يضرب به مطيته؛ لئلا تخرج عن الطريق. والرجا حاد يحدوها يطلب لها السير، والحب قائدها وزمامها الذي يشوقها، فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق ؛ خرجت عن الطريق وظلت عنها.
فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه " انتهى من "مجموع الفتاوى" (15 / 21).
رابعا: العلم بصفات الله تعالى واليقين بها والعمل على مقتضاها مما يثبت المؤمن عند الشداد والبلاء
العلم بصفات الله تعالى واليقين بها والعمل على مقتضاها، من أسباب سلامة العقل من الأمراض أو الخروج عن حد الاعتدال عند المحن والشدائد والبلاء.
فالمؤمن عند البلاء يتعلق بصفته تعالى الرحيم، كما في قصة أيوب عليه السلام: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ الأنبياء (83 – 84).
فنرى اليوم من أصح العقول عقول المؤمنين، فهم أبعد الناس عن الاعتلالات أو الانتحار، فيرى في الصبر عند كل ضائقة منحة من الله الرحيم الكريم تنتظره.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته، علم يقينا أن المكروهات التي تصيبه ، والمحن التي تنزل به : فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته " انتهى من"الفوائد" (ص 133).
وأما الجاهلون بصفات الله تعالى الرحمن الرحيم الكريم الجواد ، فهم في حرمان من هذا المقام ، وقد أدى ذلك الجهل ، أو قلة اليقين ، بطوائف منهم ، عند المحن والشدائد ، إلى عدم التوفيق إلى التوكل والرجاء ، ففسدت عقولهم بسبب القنوط والهلع ، فمنهم من ينتحر ومنهم من يفسد عقله ويعتل.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وحقيقة الأمر: أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور، لا تتم حقيقة التوكل إلا بها. وكل أشار إلى واحد من هذه الأمور، أو اثنين أو أكثر.
فأول ذلك: معرفة بالرب وصفاته من قدرته، وكفايته، وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.
قال شيخنا رضي الله عنه: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف. ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لم يشأ.
ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله.
ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات.
فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزيئات العالم؟ ولا هو فاعل باختياره؟ ولا له إرادة ومشيئة. ولا يقوم به صفة؟ فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف: كان توكله أصح وأقوى " انتهى من "مدارج السالكين" (3 / 1750).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |