عنوان الفتوى : هل ذكر القرآن أن اليهود أذكى الأمم؟
هل ذُكر في القرآن أن اليهود يعتبرون أذكى من باقي الأمم؟
الحمد لله.
أولًا:
بيان المراد بتفضيل بني إسرائيل المذكور في القرآن
لعل السائل يقصد تفضيل بني إسرائيل في قوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ البقرة/47.
وهذه الآية مما اتفق الناس على أن التفضيل فيها خاص بزمان موسى عليه السلام، وليس المقصود تفضيل بني إسرائيل في كل وقت.
عَنْ قَتَادَةَ: "وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 47] قَالَ: فَضَّلَهُمْ عَلَى عَالِمِ ذَلِكَ الزَّمَانِ".
عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: " وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 47] قَالَ: بِمَا أُعْطُوا مِنَ الْمُلْكِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ؛ عَلَى عَالِمِ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ لِكُلِّ زَمَانٍ عَالِمًا".
انظر: "تفسير الطبري" (1/ 629).
وهناك أوجهٌ أخرى ذكرها "الراغب" في "تفسيره" (1/ 180): " إن قيل كيف قال: فضلتكم على العالمين، وقد قال تعالى لهذه الأمة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؟
الجواب: أن التفضيل الذي ذكره الله تعالى، هو الفضيلة التي خص بها نبو آدم، المعنية بقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الآية.
وبنو إسرائيل وإن كان قد شاركهم غيرهم في هذه النعمة، فإنهم لما نسوا نعم الله تعالى، خصوا بالنداء لتذكيرهم، كقولك: "يا فلان نسيت نعمة الله عليك"، وقد تقدم أنه ربما يخص بالمخاطبة لتذكيرهم بعض المعنيين بالحكم، لأنه أرفعهم منزلة.
أو لأن العناية ما أعطوا من المن والسلوى وإظلالهم بالغمام، والحجر الذي تفجر منه الأنهار، وغير ذلك.
وقيل: إنه جعل كل فرقة أو كل نفس في زمانهم عالمًا، وذكر أنه فضلهم على غيرهم ممن في زمانهم.
وقيل: إن ذلك بما رشحهم له من الإيمان بالله ورسوله والأعمال الصالحة، فإن من فعل ذلك كان هو المفضل على العالمين، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ"، انتهى.
وقال "ابن عاشور" في "التحرير والتنوير" (1/ 483):
"وَالْعَالَمُونَ فِي مَقَامِ ذِكْرِ فَضَائِلِ الْخَلْقِ، أَوِ الْأُمَمِ أَوِ الْقَبَائِلِ: يُرَادُ بِهَا أَصْنَافُ تِلْكَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَالَمِينَ هُنَا هُمُ الْأُمَمَ الْإِنْسَانِيَّةَ، فَيَعُمَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ، لَكِنَّ عُمُومَهُ هُنَا عُرْفِيٌّ يَخْتَصُّ بِأُمَمِ زَمَانِهِمْ، كَمَا يَخْتَصُّ نَحْوَ: جَمْعِ الْأَمِيرِ الصَّاغَةَ، بِصَاغَةِ مَكَانِهِ، أَيْ بَلَدِهِ، وَيَخْتَصُّ أَيْضًا بِالْأُمَمِ الْمَعْرُوفَةِ، كَمَا يَخْتَصُّ جَمْعُ الْأَمِيرِ الصَّاغَةَ، بِالصَّاغَةِ الْمُتَّخِذِينَ الصِّيَاغَةَ صِنَاعَةً، دُونَ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ الصِّيَاغَةَ. وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: هُوَ أَشْهَرُ الْعُلَمَاءِ، وَأَنْجَبُ التَّلَامِذَةِ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُخَاطَبِينَ أَوْ سَلَفِهِمْ عَلَى أُمَمِ عَصْرِهِمْ " انتهى.
ثانيًا:
وصف القرآن لإسحاق عليه السلام بالعلم
أما ما قد يفهم من وصف إسماعيل بالحلم، ووصف إسحاق بالعلم، فلا علاقة به بوصف أبنائهما، فإن هذه الصفات المذكور مناسبة لهما، ولا تنفي باقي الصفات عنهما.
ووصف إسماعيل بـ (الحليم)، مناسب جدًا، فإن الحلم هو العقل، وكمال الرأي، المتضمن كمال الصبر، وجوابه عليه السلام لما أخبر بالأمر بذبحه، يدل على كمال عقله، وكمال صبره، قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ .
ووصف إسحاق بأنه (عليم): أي سيكون عليمًا، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء.
وقال الحسن: عليم نبي. انظر: "البحر المحيط" (10/ 139).
وللفائدة، ينظر جواب السؤال رقم: (108912).
ثالثًا:
وصف الذكاء ليس مدحاً إذا لم ينفع صاحبه
لو سلمنا بأنهم أذكى الأمم، مع مخالفة هذا للواقع، فإن الاكتشافات، وواقع الأبحاث المعاصرة النظرية والتجريبية تقول: إن غيرهم من الأمم أذكى منهم.
لكن؛ لو سلمنا هذا، فإن هذا الذكاء لن ينفعهم، وليس مدحًا لهم، بل كما قال سبحانه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ الروم/6 - 7.
وينظر جواب السؤال رقم: (293874).
رابعًا:
في الفرق بين المعجزات الحسية والمعجزات العقلية
اعلم أن "المعجزات التي أتى بها الأنبياء - عليهم السلام - ضربان: حسي وعقلي. فالحسي ما يدرك بالبصر، كناقة صالح، وكوفان نوح، ونار إبراهيم وعصى موسى - عليهم السلام -. والعقلي ما يدرك بالبصيرة، كالإخبار عن الغيب تعريضًا وتصريحًا، والإتيان بحقائق العلوم..
فأما الحسي: فيشترك في إدراكه العامة والخاصة، وهو أوقع عند طبقات العامة، وآخذ بمجامع قلوبهم، وأسرع لإدراكهم. وأما العقلي: فيختص بإدراكه كملة الخواص من ذوي العقول الراجحة، والأفهام الثاقبة، والروية المتناهية، الذين يغنيهم إدراك الحق. وجعل تعالى أكثر معجزات بني إسرائيل حسيًا لبلادتهم، وقلة بصيرتهم. وأكثر معجزات هذه الأمة عقليًا، لذكائهم وكمال أفهامهم. ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على وجه الدهر، غير معرضة للنسخ، وكانت العقليات باقية غير مبتذلة، جعل أكثر معجزاتها مثلها باقية." انتهى من"تفسير الراغب" (1/ 43).
وقال الرازي: "إخبار النبي عليه السلام بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاقهم وتعنتهم مع الأنبياء، ومعاندتهم لهم وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم، وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة، عبدوا العجل بعد مفارقة موسى عليه السلام إياهم بالمدة اليسيرة، فدل على بلادتهم "، انتهى من "التفسير الكبير"(3/ 559).
والله أعلم.