عنوان الفتوى : لماذا خص الله بني إسرائيل بالذكر في آية (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل)؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

لماذا خص الله تعالى بني إسرائيل بقوله في سورة المائدة: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32))؟

مدة قراءة الإجابة : 11 دقائق

الحمد لله.

قوله تعالى:  مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ  المائدة/ 32.

أولًا:

تفسير آية (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل..)

قوله تعالى:  من أجل ذلك  ، أي: مما جره هذا القتل.. هذه الكتابة. قال "مكي بن أبي طالب" في "الهداية" (3/ 1686): " ومعنى الآية: من أجل هذا القتل كتبنا - أي: حكمنا - على بني إسرائيل: أنه من قتل نفساً ظلماً، لم تَقْتُل نفساً، أو قتلها بغير فساد كان منها في الأرض، وفسادُها: إخافةُ السُّبل.

وقوله: (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).

قال ابن عباس: معناه من قتل نبياً، أو إماماً عدلاً: فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أعان نبياً، أو إمامَ عدلٍ، فنصره من القتل، فكأنما أحيا الناس جميعاً.

وقيل المعنى: من قتل نفساً بغير ذنب، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها - أي: ترك قتلها مخافة الله - فكأنما أحيا الناس جميعاً.

وقيل المعنى: فكأنما قتل الناس عند المقتول، ومن استنقذ نفساً من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ.

وقيل: المعنى: أن صاحب القتل يَصْلى النار، فهو بمنزلة من قتل الناس جميعاً، ومَن سَلِم مِن قتلها، فكأنما سلم من قتل الناس جميعاً.

وقال مجاهد: معناه أنه يصير إلى جهنم بقتل نفس، كما يصير إليها بقتل جميع الناس.

وقيل: المعنى (أنّ) من قتل نفساً، يجب عليه من القصاص والقَود، كما يجب على من قتل الناس جميعاً، قال ذلك ابن زيد عن أبيه.

وقيل: معنى مَنْ أَحْيَاهَا: مَن عفا عمن يجب عليه القصاص، فهو مثل من عفا عن جميع الناس لو وجب (له عليهم قصاص).

قال ابن زيد أيضاً: (مَنْ أَحْيَاهَا): من عفا عنها، أعطاه الله من الأجر مثل لو عفا عن الناس جميعاً. وعن مجاهد: من أحياها من غرق أو حرق أو هلكة. قال الحسن: وأعظم إحيائها: إحياؤها من كفرها وضلالتها.

وقيل: المعنى يُعذَّب - كما يعذب قاتل الناس جميعاً - من قتل نفساً، ويُؤجَر من أحيا نفساً - أي: استنقذها - كما يؤجر من أحيا الناس جميعاً.

وقيل: المعنى هو: في الجرأة على الله والإقدام على خلافه كمن قتل الناس جميعاً، تشبيهاً لا تحقيقاً، لأن عامل السيئة لا يجزي إلا بمثلها.

وقوله (فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ) هذا يُعْطَى من الأجر مثل ما يعطى من أحيا الناس جميعاً، لأن الحسنات تضاعف ولا تضاعَفُ السيئات، فهذه حقيقة والأول على التشبيه لا على الحقيقة "، انتهى.

وقال السعدي في "تفسيره" (229): " يقول تعالى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الذي ذكرناه في قصة ابني آدم، وقتل أحدهما أخاه، وسنه القتل لمن بعده، وأن القتل عاقبته وخيمة وخسارة في الدنيا والآخرة.

كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أهل الكتب السماوية أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ أي: بغير حق فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا؛ لأنه ليس معه داع يدعوه إلى التبين، وأنه لا يقدم على القتل إلا بحق، فلما تجرأ على قتل النفس التي لم تستحق القتل؛ عُلم أنه لا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره، وإنما ذلك بحسب ما تدعوه إليه نفسه الأمارة بالسوء، فتجرؤه على قتله، كأنه قتل الناس جميعًا.

وكذلك من أحيا نفسا أي: استبقى أحدا، فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله، فمنعه خوف الله تعالى من قتله، فهذا كأنه أحيا الناس جميعا، لأن ما معه من الخوف يمنعه من قتل من لا يستحق القتل.

ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد أمرين:

إما أن يقتل نفسا بغير حق متعمدا في ذلك، فإنه يحل قتله، إن كان مكلفا مكافئا، ليس بوالد للمقتول.

وإما أن يكون مفسدا في الأرض، بإفساده لأديان الناس أو أبدانهم أو أموالهم، كالكفار المرتدين والمحاربين، والدعاة إلى البدع الذين لا ينكف شرهم إلا بالقتل.

وكذلك قطاع الطريق ونحوهم، ممن يصول على الناس لقتلهم، أو أخذ أموالهم.

(وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ) التي لا يبقى معها حجة لأحد.

(ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ) أي: من الناس (بَعْدِ ذَلِكَ) البيان القاطع للحجة، الموجب للاستقامة في الأرض لَمُسْرِفُونَ في العمل بالمعاصي، ومخالفة الرسل الذين جاءوا بالبينات والحجج "، انتهى.

وقال الطاهر في "التحرير والتنوير" (6/ 175): " واستفيد التعليل من مفاد الجملة.

وكان التعليل بكلمة (من أجل) أقوى منه بمجرد اللام، ولذلك اختير هنا ليدل على أن هذه الواقعة كانت هي السبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه.

وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص (ذلك) قصد استيعاب جميع المذكور " انتهى.

ثانيًا:

بيان وجه التشبيه في الآية بين من قتل نفساً واحدة ومن قتل مائة نفس 

قال ابن القيم، رحمه الله:

" ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة قال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) [المائدة: 32].

وقد أشكل فهم هذا على كثير من الناس، وقالوا: معلوم أنّ إثمَ قاتلِ مائةٍ أعظمُ عند الله من إثم قاتل نفس واحدة.

وإنّما أُتوا من ظنّهم أنّ التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة، واللفظُ لم يدلّ على هذا، ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذُه بجميع أحكامه.

فإن قيل: ففي أيّ شيء وقع التشبيه بين قاتل نفس واحدة وقاتل الناس جميعًا؟

قَيل: في وجوه متعددة:

أحدها: أنّ كلاًّ منهما عاص لله ورسوله، مخالف لأمره، متعرّض لعقوبته. وكلّ منهما قد باء بغضب الله، ولعنته، واستحقاق الخلود في نار جهنم، وأعدّ له عذابًا عظيمًا، وإن تفاوتت دركات العذاب، فليس إثم من قتل نبيًّا، أو إماما عادلًا، أو عالمًا يأمر الناس بالقسط؛ كإثم من قتل من لا مزية له من آحاد الناس.

الثاني: أنهما سواء في استحقاق إزهاق النفس.

الثالث: أنهما سواء في الجراءة على سفك الدم الحرام، فإنّ من قتل نفسًا بغير استحقاق، بل لمجرّد الفساد في الأرض أو لأخذ ماله، فإنّه يتجرّأ على قتل كل من ظفر به، وأمكنه قتلُه، فهو مُعادٍ للنوع الإنساني.

ومنها: أنّه يسمَّى قاتلًا أو فاسقًا أو ظالمًا أو عاصيًا بقتله واحدًا، كما يسمّى كذلك بقتله الناس جميعًا.

ومنها: أنّ الله سبحانه جعل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتواصلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر؛ فإذا أتلف القاتل من هذا الجسد عضوًا، فكأنّما أتلف سائر الجسد، وآلم جميع أعضائه. فمن آذى مؤمنًا واحدًا، فكأنّما آذى جميع المؤمنين، ومن آذى جميع المؤمنين آذى جميع الناس، فإنّ الله إنّما يدفع عن الناس بالمؤمنين الذين بينهم، فإيذاء الخفير إيذاء المخفر " انتهى من "الداء والدواء" (337 - 345) بتصرف.

ثالثا:

السبب في تخصيص بني إسرائيل بالذكر في آية (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل)؟

وأما تخصيص بني إسرائيل، فقد ذكر العلماء عللًا لذلك:

1- فقال بعضهم: لأجل أن كتابهم أول كتاب بيَّن الله فيه الأحكام.

قال "الراغب" في "تفسيره" (4/ 330): " قوله: (مِن أَجلِ ذَلِكَ) أي من جناية ذلك. وقيل: من سبب ذلك، كقولهم: من أجله، وبَّين بقوله: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ): نه كان من أول من سنَّ القتل، وعنده شُرع هذا الحكم... وإنما خص بني إسرائيل دون غيرهم: لأن كتابهم أول كتاب بُيِّن فيه الأحكام " انتهى.

2- وقال آخرون: للتنبيه على أنهم فجروا في سفك الدماء بغير حق.

قال ابن عطية في "تفسيره" (2/ 182): " وخص الله تعالى: بَنِي إِسْرائِيلَ بالذكر، وقد تقدمتهم أمم كان قتل النفس فيهم محظورا، لوجهين:

أحدهما: فيما روي: أن بَنِي إِسْرائِيلَ أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب، وغُلِّظ الأمر عليهم، بحسب طغيانهم، وسفكهم الدماء.

والآخر: لتلوح مذمتهم في أن كتب عليهم هذا، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون، بل همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ظلمًا؛ فخُصوا بالذكر، لحضورهم مخالفين لما كتب عليهم " انتهى.

3- وقيل لأن الحسد غالب فيهم، وهو يجر إلى هذه الجريمة، فلذلك استهانوا بالقتل، وكثر فيهم. جاء في "التفسير الوسيط - مجمع البحوث" (2/ 1057): " وتخصيص بني إِسرائيل بالذكر - مع أن الأَمر كذلك بالنسبة إلي غيرهم - لأَن الحسد كان منشأ هذه الجريمة، وهو غالب عليهم، ولأنهم كانوا يستهينون بجريمة القتل، حتى لم يتورعوا عنها في أَنبيائهم، فنبههم الله - في كتابهم - إِلى فظاعة هذه الجريمة حتى يحذروها " انتهى.

والله أعلم.

أسئلة متعلقة أخري
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي...