عنوان الفتوى : المستحب في صفة الجلوس للآكل، وأنفع هيئاته
ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه: فتح الباري، كيفيتين للجلوس أثناء الطعام هما: أن يكون جاثياً على ركبتيه، وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى، ويجلس على اليسرى. فما الدليل من السنة على ذلك؟ وسن لنا النبي صلى الله عليه وسلم لعق صفحة الطعام، وقال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة. فهل ينطبق ذلك على الشراب، بمعنى إذا كنت أشرب مثلا كوبا من اليانسون. فهل من السنة أن أشرب الكوب كاملا بدون أن أترك فيه شيئا؟ ووردت عدة أدعية تقال بعد الطعام. فهل أدعو بها كلها بعد الطعام، أم أنوع بينها؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالدليل من السنة على أن الأفضل في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثيا على ركبتيه، هو فعله صلى الله عليه وسلم، كما في قصة الأعرابي التي رواها ابن ماجه والطبراني وغيرهما، وفيها: وَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَصْعَةٌ يُقَالُ لَهَا: الْغَرَّاءُ، يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا، وَسَجَدُوا الضُّحَى، أُتِيَ بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ ... فَالْتَفُّوا عَلَيْهَا، فَلَمَّا كَثَرُوا، جَثَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأكُلُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا.
وقد ذكر الحافظ طرفا منها في الفتح، قبل أن يستنبط منها أن المستحب في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثيا على ركبتيه فقال: وَكَانَ سَبَبُ هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّةَ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عِنْدَ ابن مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ .. فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ ... الحديث.
ثم قال: فَالْمُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ الْجُلُوسِ لِلْآكِلِ أَنْ يَكُونَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَظُهُورُ قَدَمَيْهِ، أَوْ يَنْصِبُ الرِّجْلَ الْيُمْنَى، وَيَجْلِسُ عَلَى الْيُسْرَى. اهـ.
وأما الكيفية الثانية؛ فقد قال عنها العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري: وَإِذا ثَبت كَونه -الأكل متكئا- مَكْرُوها، أَو خلاف الأولى، فاستحب فِي صفة الْجُلُوس للْأَكْل أَن يكون جاثيا على رُكْبَتَيْهِ، وَظُهُور قَدَمَيْهِ، أَو ينصب الرجل الْيُمْنَى، وَيجْلس على الْيُسْرَى. اهـ.
وهو ما درج عليه كثير من أهل العلم.
وقال ابن القيم في الطب النبوي، ونقله عنه كثير منهم: وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ لِلْأَكْلِ مُتَوَرِّكًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَضَعُ بَطْنَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى، عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ الْيُمْنَى، تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَدَبًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاحْتِرَامًا لِلطَّعَامِ وَلِلْمُؤَاكِلِ، فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ أَنْفَعُ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ وَأَفْضَلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَكُونُ عَلَى وَضْعِهَا الطَّبِيعِيِّ الَّذِي خَلَقَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ، مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْهَيْئَةِ الْأَدَبِيَّةِ، وَأَجْوَدُ مَا اغْتَذَى الْإِنْسَانُ إِذَا كَانَتْ أَعْضَاؤُهُ عَلَى وَضْعِهَا الطَّبِيعِيِّ. اهـ.
وأما أمره صلى الله عليه وسلم بسلت صحفة الطعام، وعدم ترك ما تناثر فيها من بقيته، هل ينطبق ذلك على الشراب؟
فالظاهر أنه ينطبق أيضا على عدم ترك القليل من الشراب في الكوب، أو غيره؛ فلا فرق بين المطعوم والمشروب، والنصوص العامة في الأمر بالحفاظ على الطعام، وعدم إهداره، أو ترك شيء منه للشيطان، ينبغي أن تكون شاملة لهما؛ فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان.
وكذلك جاءت السنة بلعق الأصابع قبل مسحها، وبسلت ما بقي في الصحفة من الطعام، وأيضا فإن الذي تناول الشراب لا يدري في أي شرابه تكون البركة، فلعلها فيما يترك؛ وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ البَرَكَةُ. رواه الإمام أحمد في المسند وغيره، وصححه الألباني.
وقد ورد ما يخالف هذا المعنى منسوبا للحديث مثل "إذا شربتم فأسئروا" و"إذا أكلتم فأفضلوا" و"لَا خَيْرَ فِي طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ لَيْسَ لَهُ سُؤْر" ولكننا لم نقف على من صحح شيئا منها.
جاء في كتاب: الْجِدُّ الْحَثِيثُ فِي بَيَانِ مَا لَيْسَ بِحَدِيث لأحمد الغزي العامري بتحقيق: بكر أبو زيد: (إِذَا أَكَلْتُمْ فَأَفْضِلُوا) قَالَ صَاحِبُ الأَصْلِ لَمْ أَجِدْهُ حَدِيثًا، بَلْ فِي الْحَدِيثِ مَا يُعَارِضُهُ. اهـ.
وقال عنه محقق المقاصد الحسنة: وفي هامش طبعة الخانجي: لم يتكلم عليه المؤلف، وهو حديث لا أصل له. اهـ.
وجاء في فتاوى دار الإفتاء المصرية: وقد سئل بعض العلماء عن هذا الحديث -إذا شربتم..- وعن حديث "إذا أكلتم فأفضلوا" فقال ما نصه: هذان حديثان لا أصل لهما. مجلة الإسلام - المجلد الرابع، العدد 36"
وعلى كل حال، فهذه الأحاديث لا تقوم بها حجة، ولا يصح العمل بها؛ لضعفها، ومعارضتها للأحاديث الصحيحة التي أشرنا إلى بعضها.
وعليه؛ فلا ينبغي ترك بقية الطعام أو الشراب دون مبرر؛ كأن يتركه لمن ينتفع به، أو يتركه خشية ضرره.
جاء في كشف الخفاء للعجلوني، تعليقا على بعضها: وقال النجم: لم أجده حديثا، بل في الحديث ما يعارضه، كحديث مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة، اللهم إلا أن يحمل على ما لو كان له خادم ونحوه، فلا بأس أن يفضل له إن لم يكن قد أطعمه منه...
وفي طبقات الحنابلة لابن رجب، في ترجمة الوزير ابن هبيرة ما نصه: قوله عليه السلام: إذا شربتم فأسئروا. قال: هذا في الشرب خاصة، وأما في الأكل، فمن السنة لعق القصعة والأصابع، وإنما خص الشرب بذلك؛ لأن التراب والأقذار ترسخ في أسفل الإناء، فاشتفاف ذلك، يوجب شرب ما يؤذي. اهـ.
والحاصل أن مجرد ترك سؤر، أو فضلة من الشراب والطعام في الإناء، أو الكوب ليس مطلوبا شرعا، بل لا ينبغي تركه دون مبرر؛ كأن يكون في البقية أذى، أو ضرر، أو يتركه لينتفع به غيره.
وأما الأدعية المأثورة بعد الطعام؛ فإنها مستحبة، ولك أن تدعو بها كلها، أو بما تيسر منها، ولك أن تنوع فيها، والأمر في ذلك واسع -إن شاء الله تعالى-؛ لأنها ليست واجبة.
وللمزيد من الفائدة عن الأدب النبوي عند تناول الطعام، انظر الفتوى رقم: 16952.
والله أعلم.