أرشيف المقالات

دليل الخوف

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
دليل الخوف
(المحصول الجامع لشروح ثلاثة الأصول)
 
قال المصنف رحمه الله: (وَدَلِيلُ الْخَوْفِ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].
 
الشرح الإجمالي:
(ودليلُ) أن (الخوف) عبادة من العبادات لا يصرف إلا لله: (قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾؛ أي: المشركين، فنهى عز وجل عن الخوف من غيره، ثم قال: فَلَا ﴿ فلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾، وهذا أمر بالخوف من الله جل وعلا، فـ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ بي، فخافوني ولا تخافوهم، وهذا الدليل فيه أن الخوف من غير الله منهي عنه، وأن الخوف من الله جل وعلا مأمور به[1].
 
الشرح التفصيلي:
ذكر المصنف فيما سبق أنواعًا من العبادات؛ كالخوف، والرجاء، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والتوكل، والذبح، والنذر إلى آخره، وهذا مع ما سبق شروعٌ من المصنف رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة في بيان أدلة كون تلك التي ذكر من أنواع العبادات، فكأنَّ قائلًا قال: ما الدليل على أن هذه من العبادات التي من صرَفها لغير الله جل وعلا كَفر؟ فأتى بالأدلة على ذلك، والأدلة التي سيوردها المصنف على نوعين:
النوع الأول: أن يُسْتَدل بدليل يُثبت كون تلك المسألة من العبادة، فيُثْبتُ كون الخوف من أنواع العبادة، ويثبت كون الرجاء من العبادة، فإذا ثَبَت كونه من العبادة، أُستدل بالأدلة السابقة؛ كقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18]، وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، ونحوها من الأدلة العامة الدالة على أن من توجه بالعبادة لغير الله، فهو مشرك؛ فهذا النوع من الأدلة متركب من شيئين:
أحدهما: أن يقام الدليل على أن هذه المسألة من العبادة؛ فيُستدل على أن الخوف من العبادة، وعلى أن الرجاء من العبادة.
 
والآخر: إذا استقام الدليل والاستدلال على أن هذه المسألة من العبادة، فيُستدل بالأدلة العامة على أن من صرف شيئًا من العبادة لغير الله فهو مشرك.
 
النوع الثاني: خاص، وهو أن كل نوع من تلك الأنواع من العبادات له دليل خاص، يُثبت أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك، وأنه يجب إفراد المولى جل وعلا بذلك النوع من أنواع العبادة.
 
وسيأتي ذكر المصنف لهذه الأدلة، وبعضها من النوع الأول، وبعضها من النوع الثاني[2].
 
قال المصنف: (ودليل الخوف؛ قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]: ابتدأ المصنف فيما سبق بعبادة الدعاء، وهنا ذكَرَ دليل العبادة الثانية: وهي عبادة الخوف، والخوف من العبادات القلبية، بل هو ركن العبادة الأعظم، ولا يستقيم إخلاص الدين لله إلا به[3].
 
والخوف: هو توقع المكروه في المستقبل [4].
وفي الشرع هو: فرار القلب إلى الله ذُعرًا وفزعًا [5].
 
والآية التي ساقها المصنف دليلٌ على أن الخوف عبادة لا يجوز صرفه لغير الله تعالى، وذلك من وجهين:
الأول: أن الله جل وعلا نهى عن الخوف من غيره وأمر بالخوف منه، وما دام أنه جل وعلا أمر بالخوف منه؛ فإنه يصدق على الخوف تعريف العبادة: (أنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه)؛ لأنه جل وعلا لا يأمر شرعًا إلا بما هو محبوب له ومرضيٌّ عنده، فيصدق عليه تعريف العبادة، وقد دلت الأدلة العامة على أن من صرف شيئًا من العبادة لغير الله، فهو مشرك، وهذا دليل من النوع الأول.
 
الثاني: أنه جل وعلا قال: ﴿ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]، فجعل حصول الإيمان مشروطًا بالخوف منه سبحانه وتعالى، فمن لم يأت به لم يأت بالإيمان الواجب، والمعنى: إن كنتم مؤمنين فخافون ولا تخافوهم، وهذا يدل على وجوب إفراد الله تعالى بالخوف المراد في الآية، فإذا خاف الإنسان غير الله سبحانه خوفَ تعبُّد وتألُّه مستقر بالقلب، يحمل على الطاعة والبعد عن المعصية، فإن هذا الخوف من أنواع الشرك؛ لأن الله جل وعلا جعله من مقتضيات الإيمان، فمن صرف هذا لغير الله تعالى، فليس بمؤمنٍ، وهذا دليل من النوع الثاني[6].
 
والخوف الذي يجب إفراد الله جل وعلا به، ومَن لم يفرد الله جل وعلا به، فهو مشرك كافر، هو نوع من أنواع الخوف، وليس كل أنواعه، وهو خوف العبادة، وخوف العبادة هو: الخوف الذي يكون فيه الذل والتعظيم، بأن يخاف من غير الله خوف تعبدٍ بكمال ذل ومحبة، فيخاف منه وهو يعظمه[7]، أو أن يخاف غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى[8]، كأن يخاف من ميت، أو غائب حي لا سبب له أن يصيبه بمكروه، أو يخاف من حي حاضر في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأنه سوَّى غير الله تعالى بالله فيما هو من خصائص الله؛ إذ خاف من المخلوق خوفه من الله جل وعلا[9]، ويُسمى هذا النوع من الخوف بـ"خوف السر"، وهو أن يخاف أن يُصيبه الَمخوفُ منه بشيء في نفسه - يعني في نفس ذلك الخائف - كما يصيبه الله جل وعلا بأنواع المصائب من غير أسباب ظاهرة، ولا شيء يمكن الاحتراز منه[10]، يعني: أن يعتقد أنَّ عنده قوة وتَصَرُّفًا بحيث يؤذيه بدون سبب، فيخاف من أجل قدرة خاصة سرية ليست حسب الحس؛ فخوف السر: الذي ذكره بعض أئمَّة الدَّعوة النَّجْدية؛ كالشَّيْخ سليمان بن عبدالله في تيسير العزيز الحميد، ثُمَّ تَبعَه جماعةٌ، لا يُريدُون به -كما فَهِمَه بعضُ أهل العَصْرِ واسْتنكرَه - بأنَّه هو الخوفُ الذِي يقع في الباطن، حيثُ فَهِمَ مِن (السِّرِّ) باطِنَ الإنسانِ، واعترضَ على ذلك بأنَّ الخوفَ أصْلًا محلُّه الباطنُ؛ فإنَّ أئمةَ الدعوةِ لا يُريدُون هذا الْمَعْنَى، وإنَّما الْمُرادُ بالسِّرِّ: القُدرةُ على التأثيرِ؛ كما يعتقده بعضُ أهلِ الخرافةِ في مُعَظَّميهِم مِن أدعياءِ الأولياءِ، بأن يعتقِدُوا أنَّ لهم قدرةً على التأثيرِ ولو بَعُدُوا؛ فمثلُ هذا يُقال فيه: خوف السِّر، وهذا هو معنى السِّر الذي يُذكَرُ في كلام أهل البدع؛ كما يُقال في دعائهم: (فُلانٌ قدَّس اللهُ سِرَّهُ)، فإن مرادهم: عَظَّم اللهُ تأثيرَه في النَّفع والضُّرِّ، والْفُرقان بين دعاءِ أهل السنةِ وأهلِ البدعة في هذا الْمقَام؛ أنَّ أهل السنة يقولون في حقّ الـميِّتِ الـمُعظَّم: (قدَّس اللهُ رُوحَه)؛ أي: نزَّهها وطَّهرها ورفعَ منزلَتَها؛ وأما أهلُ البدعِ فيقولون: (فلان قدَّس اللهُ سِرَّهُ) ويُريدون به الْـمَعْنَى الذِي تقدَّم [11]؛ فخوف السر هو الخوف الذي يتقرَّب ويتعبد به الخائف للمَخُوف منه؛ كما كان المشركون يخافون آلهتهم خوف السر؛ أن يصيبهم ذلك الإله، وذلك السيد، أو الولي، كما يصيبهم الله جل وعلا بالأشياء، فيقع في قلوبهم الخوف من تلك الآلهة من جنس الخوف الذي يكون من الله جل وعلا؛ وهذا هو الذي جاء في مثل قول الله جل وعلا: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 81]، فقوله: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ﴾؛ لأنهم يخافون آلهتهم هذا النوع من الخوف، لهذا تجد قلوبهم معلقة بآلهتهم؛ لأنهم يخافونهم خوف السر، وقال جل وعلا مخبرًا عن قول قوم هود؛ حيث قالوا لهود عليه السلام: ﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [هود: 54]، يعني بمصيبة في نفسك، فهم خافوا الآلهة؛ لأنها عندهم تصيب بسوء[12]، وهذا النوع من الخوف هو الذي يختص الله عز وجل به، فهذا الخوف لا يكون إلا لله تعالى، وصرفه لغير الله شرك أكبر؛ لأنه ليس هناك من يُصيب من يشاء بما يشاء بقدرته غير الله جل وعلا [13]، فلا أحد يوجد المسببات بدون مباشرة الأسباب إلا الله عز وجل، فهو الذي يقول للشيء كن فيكون؛ فإن الله جل وعلا له الملكوت كله، وله الملك، وهو على كل شيء قدير، بيده تصريف الأمر، يرسل ما يشاء من الخير، ويمسك ما يشاء من الخير، يرسل المصائب، وكل ذلك دون أسباب يعلمها العبد، وقد يكون لبعضها أسباب[14]؛ أما إذا كان الخوف ليس خوف اعتقاد، وإنما ناتج عن ضعف الإنسان، وكان له سبب ظاهر، أو كان له سبب طبيعي؛ فهذا من أنواع الخوف الجائزة، وهو الخوف الجبلي: الذي قام سببه؛ كخوف الإنسان من السبع أو النار أو الغرق أو العدو، أو الخوف من الدخول في الأماكن المهجورة أو في الظلام، أو نحو ذلك، فيخاف من الأسباب العادية التي جعل الله فيها ما يخاف ابن آدم منه، فهذا يدخل في الخوف الطبيعي الذي يخشاه الإنسان ولا يدخل في الخوف الشركي[15]؛ لأنه مما جبَلَ الله جل وعلا الخلق عليه، وهذا لا يلام عليه ما لم يحمل على ترك واجب أو فعل محرم، فهنا يكون الخوف محرمًا[16].




[1] ينظر: حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (37)؛ وشرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (77).


[2] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (78).


[3] ينظر: حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (37).


[4] ينظر: مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 513)؛ وبلغة السالك لأقرب المسالك، للصاوي (4/ 438).



[5] تعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (27).


[6] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (79)؛ وحصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول، عبدالله الفوزان (78).



[7] المحصول من شرح ثلاثة الأصول، عبدالله الغنيمان (102).


[8] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (80)، وشرح الأصول الثلاثة، صالح بن فوزان الفوزان (133).


[9] إفادة المسؤول عن ثلاثة الأصول، عبدالله القصير (51).


[10] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (80).


[11] فوائد من تقريرات الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي، على شرح ثلاثة الأصول، للعلامة الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله، مفرغٌ، ومنشور على الشبكة العنكبوتية.



[12] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (82).


[13] الشرك في القديم والحديث (2/ 1086).


[14] ينظر: شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (80).


[15] ينظر: شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (83).


[16] ينظر: شرح ثلاثة الأصول، محمد بن صالح العثيمين (57).

شارك الخبر

المرئيات-١