عنوان الفتوى : جواز الاعتضاد والترجيح بالضعيف وأقوال الصحابة والعلماء فيما صح أصله
كيف للمسلم اليوم أن يحصل على قلب سليم كحال الصحابة عندما انتقلوا من الشرك وما فيه من أمراض للقلوب والعقل إلى قمه الصفاء والإيمان، كما في الفتوى رقم: 311908 في آخرها ورد حديث: {إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضرت العامة}. وهو ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إنما من كلام بلال بن سعد، كما ورد في الزهد رقم: 1350. وجزاكم الله خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يرزقنا قلوبًا سليمة.
وقد بيّنّا بالفتوى رقم: 253192 وتوابعها طرق الوصول للقلب السليم.
وأما الحديث المذكور في الفتوى رقم: 311908: فهو ضمن كلام شيخ الإسلام في السياسة الشرعية؛ قال: وفي حديث آخر: {إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضرت العامة}.
والأثر -كما تفضلت- مروي عن بلال بن سعد كما في الزهد لابن المبارك، والحلية لأبي نعيم، والشعب للبيهقي، والبدع لابن وضاح.
ولكن الحديث رُوي مرفوعًا؛ فعند الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خفيت الخطيئة لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة". قال: "لم يرو هذين الحديثين عن الأوزاعي إلا مروان بن سالم، تفرد بهما: أبو همام".
وكذا جاء في العقوبات لابن أبي الدنيا.
والحديث لا يصح، بل في سنده متروك، كما سيأتي في كلام الهيثمي، فلعل الصواب أنه من قول بلال أو غيره، ولعل شيخ الإسلام -رحمه الله- أورده على سبيل الاستئناس، فله شواهد كثيرة، وقد بوب له الهيثمي في المجمع [بَابٌ فِي ظُهُورِ الْمَعَاصِي] ثم قال:
12141 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "«إِذَا خَفِيَتِ الْخَطِيئَةُ لَمْ تَضُرَّ إِلَّا صَاحِبَهَا، وَإِذَا ظَهَرَتْ فَلَمْ تُغَيَّرْ ضَرَّتِ الْعَامَّةَ»". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَفِيهِ مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ الْغِفَارِيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
12142 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "«مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يَعْمَلُ بِمَعَاصِي اللَّهِ فِيهِمْ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَأَعَزُّ، ثُمَّ يَدَّهِنُونَ فِي شَأْنِهِ إِلَّا عَاقَبَهُمُ اللَّهُ»". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَفِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
12143 - وَعَنِ الْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "«إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى تَعْمَلَ الْخَاصَّةُ بِعَمَلٍ تَقْدِرُ الْعَامَّةُ أَنْ تُغَيِّرَهُ وَلَا تَغَيُّرُهُ، فَذَاكَ حِينَ يَأْذَنُ اللَّهُ فِي هَلَاكِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ»". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
12144 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُهْلَكُ الْقَرْيَةُ فِيهِمُ الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: " نَعَمْ". فَقِيلَ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بِشَهَادَتِهِمْ وَسُكُوتِهِمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ يَحْيَى بْنُ يَعْلَى الْأَسْلَمِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.
12145 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "«إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي أُمَّتِي عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا فِيهِمْ صَالِحُونَ؟ قَالَ: "بَلَى". قُلْتُ: فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِأُولَئِكَ؟ قَالَ: "يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ»". رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادَيْنِ رِجَالُ أَحَدِهِمَا رِجَالُ الصَّحِيحِ.
12146 - وَعَنْ عَائِشَةَ تَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي أَرْضٍ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ بِأسهُ". قَالَتْ: وَفِيهَا أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِيهِ امْرَأَةٌ لَمْ تُسَمَّ ... إلى آخر ما ذكر.
فهذه شواهد كثيرة تدل على أن المعنى صحيح شرعًا، ومن منهج أهل العلم الاستدلال بالضعيف وما قاربه استئناسًا إذا صح أصله؛ ولذلك لما اعترض البكري على ابن تيمية -رحمه الله- في إيراد حديث لا يصح، أجاب: هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه، بل ذكر في ضمن غيره ليتبين أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسنة، كما أنه إذا ذكر حكم بدليل معلوم ذكر ما يوافقه من الآثار، والمراسيل، وأقوال العلماء، وغير ذلك؛ لما في ذلك من الاعتضاد والمعاونة، لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي، ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك، وبآثار الصحابة والتابعين، بل بأقوال المشايخ، والإسرائيليات، والمنامات، مما يصلح للاعتضاد. فما يصلح للاعتضاد نوع، وما يصلح للاعتماد نوع. انتهى.
والله أعلم.