عنوان الفتوى : إلزام الحاكم رعيته بالعمل برأي معين من آراء المجتهدين وتعزير المخالف
إذا كانت هناك مسألة خلافية في أمر ما، اختلف فيه السلف حتى الصحابة -رضوان الله عليهم-، فهل ولي الأمر يستطيع أن يلزم المسلمين بالرأي الذي يرجحه هو؟ وهل يجوز أن يعزر من يخالفه في المسألة التي يرجحها؟ مثال على ذلك تغطية الوجه والكفين للنساء، أو إلزام الرجال بإطلاق اللحية، أو تقصير الثياب وتعزير المخالفين، أجيبونا -رحمكم الله- مع الدليل إن أمكن، وجزاكم الله خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف أهل العلم في مسألة: إلزام الحاكم رعيته بالعمل برأي معين من آراء المجتهدين في مسألة من مسائل الخلاف السائغ المعتبر، تبعًا لما يراه في ذلك من مصلحة عامة؟ ولهم في ذلك تفصيلات، وتفريعات كثيرة، وقد تناول الشيخ عبد الله بن محمد المزروع هذه المسألة في بحثه: إلزام وليِّ الأمر وأثره في المسائل الخلافية ـ وذكر فيه أقوالهم بأدلتها، ثم قال: بعد تأمل أدلة وأقوال كلا القولين، وبالنظر في المقاصد الشرعية من نصب الولاة والحكام، والمصالح والمفاسد التي تنبي عليه هذه المسألة ـ اتضح لي: أنَّ القولين متقاربان في الجملة، والخلاف بينهم يسير جدًّا في مواضع محدودة، لكنَّ القول بأحد القولين على إطلاقه مجانبٌ للصواب، مخالفٌ للمقاصد الشرعية في هذا الباب؛ فلذا: يجب الجمع بين القولين، ووضع الضوابط التي تضبط المسألة، فأقول مستعينًا بالله:
أولًا: المسائل الشرعية التي وقع عليها إجماعٌ صحيح من العلماء: فهذه يجب على ولي الأمر أن يلزم الناس فيها بما جاء في الإجماع.
ثانيًا: المسائل الشرعية التي دلَّ عليها النص الصحيح الصريح، ووقع فيها خلاف ضعيفٌ، أو شاذ: فهذه يجب على ولي الأمر أن يلزم الناس فيها بما جاء به النص، وهذا باتفاق المسلمين، كما حكاه شيخ الإسلام -رحمه الله-.
ثالثًا: المسائل الشرعية التي جاءت فيها نصوص شرعية، لكن الخلاف فيها قوي: فهذه ليس لولي الأمر أن يلزم الناس فيها بقولٍ من الأقوال إلا بشروطٍ معينة، وهي:
1ـ أن تكون المصلحة الشرعية تقتضي إلزام الناس بأحد الأقوال، ولا يستقيم حالهم إلا بذلك.
2ـ أن لا يكون هذا القول المُلْزَم بِهِ يوقع القائلين بالقول الآخر في حرجٍ شرعي من تأثيم، أو بطلان، ونحو ذلك، مثاله: لو كان ولي الأمر يرى جواز كشف الوجه للمرأة، فلا يجوز له إلزام النساء بكشف وجوههن؛ لأن ذلك يوقع القائلين بوجوب تغطية الوجه في حرجٍ شرعي، لكن لو ألزم النساء بتغطية وجوههن لم يكن على القائلين بالقول الآخر أيُّ حرجٍ شرعي.
مثال آخر: توسعة المسعى الجديدة، وقع فيها خلاف بين أهل العلم في جوازها من عدمه، ففي إلزام الناس بالسعي في المسعى الجديد إفساد لعمرة وحج من رأى عدم صحة السعي فيه.
رابعًا: المسائل التي لم يأت فيها نصٌ شرعي، وإنما هي اجتهادات من الفقهاء بناءً على المصالح، وسد الذرائع، ونحو ذلك، فللإمام أن يُلزم الناس بما رآه، وهذا مبني على قاعدة: تبدل الأحكام بتبدل الزمان، والمكان، ويقيد هذا بما كان فيه مصلحة للمسلمين، لا على حسب أهواء الحاكم، ومصالحه الخاصة....
خامسًا: يشترط فيما تقدم أن يكون الإمام عالمًا مجتهدًا عادلًا، وإن لم يكن كذلك فيجمع علماء بلده، وأهل الحل والعقد، ويستشيرهم، ويعمل بقولهم، أما إذا كان الإمام فاسقًا جائرًا مراعيًا مصالح كرسيه، فالحكم فيه ما قاله شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في المجموع: 29 196 ـ والإمام العدل وجبت طاعته فيما لم يعلم أنه معصية، وإذا كان غير عدل فتجب طاعته فيما عُلِمَ أنه طاعة، كالجهاد، وكذلك يجب أن يكون أهل العلم، وأهل الحل والعقد الذي تتم استشارتهم محلَّ تقدير عند عموم الأمة، وعليهم أن يبينوا الحجة الشرعية في ذلك....
سادسًا: أن يكون هذا من الناحية العملية، أما من الجهة العلمية، فليس حكم الحاكم، وإلزامه مغيرًا للأحكام الشرعية ولا مرجحًا لقولٍ على آخر. اهـ.
وإذا تحققت الضوابط السابقة، وجاز للحاكم أن يلزم الناس بقول من أقوال المجتهدين المعتبرة، فعندئذ يمكن تعزير المخالف إذا كان ذلك درءًا لمفسدة، وتحقيقًا لمصلحة عامة.
ولمزيد الفائدة في هذه المسألة يمكن الاطلاع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع تدوين الراجح من أقوال الفقهاء، وإلزام القضاة بالحكم به، وهو منشور في العدد الثالث والثلاثين من مجلة البحوث الإسلامية.
وننبه أخيرًا على أن المسائل الثلاث التي ذكرها السائل: ستر الوجه والكفين للنساء، وإطلاق اللحية، وتقصير الثياب للرجال ـ ليست على درجة واحدة من الخلاف، ووضوح الأدلة.
والله أعلم.