عنوان الفتوى : لعن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض القبائل ودعاؤه عليهم لا ينافي خُلقه العظيم
إنني دائما أدفع عن ديني وعن رسولي محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن أتعرض للكثير من الأسئلة التي لا أستطيع الرد عليها ، منها : إذا كان النبي محمد عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين وهو على خلق عظيم كما ذكره الله تعالى ، فكيف وقد ذكر أنه كان يلعن قبائل بأكملها وهو في صلاته ، فهل اللعنة تعتبر من الخلق العظيم ؟
الجواب :
الحمد لله
نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم. شهد الله له بذلك، كما شهد له به من عرفه، من عدو وصديق.
قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم/4
والخلق العظيم يشمل الرحمة، والحلم، والصدق، والأمانة، والحكمة، والشجاعة، وغير ذلك.
ولم يقدح أحد من أعدائه في خلقه صلى الله عليه وسلم، بل أثنوا عليه قبل البعثة وبعدها.
وأما لعنه لبعض القبائل أو دعاؤه عليهم، فلا ينافي خلقه العظيم، وذلك أن الرحمة لها موضعها، والشدة لها موضعه، والضعيف من يخلط بينهما، واستعمال الشيء في موضعه هو من الكمال والتمام، ولهذا فإن الطبيب قد يصف الدواء المر للمريض، وقد يأمر ببتر عضو من أعضائه، وذلك لا ينافي رحمته.
وهذه القبائل التي لعنها ودعا عليها، كانت شديدة الوطأة على المؤمنين، وقد قتلوا 70 من الصحابة القراء، غدرا ومكرا، فهم أهل للعن والطرد.
روى البخاري (4090) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّ رِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَبَنِي لَحْيَانَ، اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدُوٍّ، فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ، كُنَّا نُسَمِّيهِمْ القُرَّاءَ فِي زَمَانِهِمْ، كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، حَتَّى كَانُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَبَنِي لَحْيَانَ ، قَالَ أَنَسٌ: " فَقَرَأْنَا فِيهِمْ قُرْآنًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ رُفِعَ: بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا "
وروى مسلم (679) عَنْ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةٍ: اللهُمَّ الْعَنْ بَنِي لِحْيَانَ، وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ، غِفَارُ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ .
ثم ألا ترى أن الله الرحيم يلعن أمثال هؤلاء في مواضع من كتابه، كما قال: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ البقرة/88، وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا النساء/51، 52
وقال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ محمد/22، 23 .
فلعن من يستحق اللعن، لا ينافي كمال الخُلق، بل لا ينافي الرحمة إذا علمنا أن هؤلاء مفسدون معاندون يصدون عن سبيل الله، فالرحمة بالضعفاء مقدمة على الرحمة بهؤلاء المفسدين الظالمين.
وهذا اللعن لم يقع منه كثيرا صلى الله عليه وسلم، ولم يقع منه في حق من يرجو إسلامه كقريش، وقد ثبت أنه ترك هذا الدعاء، لما أعلمه الله أن الأمر ليس إليه، وأنه قد يهتدي هؤلاء على خلاف ما ظنه فيهم.
روى مسلم (675) عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: اللهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ، وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ ، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ آل عمران/ 128".
وهذا مثل دعاء نوح وموسى عليهما الصلاة والسلام على أعدائهم من قومهم وغيرهم لما يئسوا من هدايتهم.
قال الله عن دعاء نوح: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا نوح/26، 27 .
وقال عن موسى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يونس/88 .
وأخبر الله تعالى عن لعن الذين كفروا على لسان داود وعيسى عليهما السلام، فقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ المائدة/78 .
والعجب ممن يعترض على ذلك إن كان يهوديا أو نصرانيا، فإن "الكتاب المقدس" مليء من ذلك، بل فيه لعن مؤمنين، كما في دعواه لعن نوح لابنه كنعان، بعد أن سقاه الخمر- وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يشرب الخمر-.
ففي "سفر التكوين"، الإصحاح التاسع: " فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، 25 فَقَالَ: " مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ 26 وَقَالَ: "مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ. 27 لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ ".
وفي "سفر التثنية" الإصحاح السابع والعشرون: "مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي يَصْنَعُ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا أَوْ مَسْبُوكًا، رِجْسًا لَدَى الرَّبِّ عَمَلَ يَدَيْ نَحَّاتٍ، وَيَضَعُهُ فِي الْخَفَاءِ. وَيُجِيبُ جَمِيعُ الشَّعْبِ وَيَقُولُونَ: آمِينَ. 16 مَلْعُونٌ مَنْ يَسْتَخِفُّ بِأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ. 17 مَلْعُونٌ مَنْ يَنْقُلُ تُخْمَ صَاحِبِهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ. 18 مَلْعُونٌ مَنْ يُضِلُّ الأَعْمَى عَنِ الطَّرِيقِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ. 19 مَلْعُونٌ مَنْ يُعَوِّجُ حَقَّ الْغَرِيبِ وَالْيَتِيمِ وَالأَرْمَلَةِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ. 20 مَلْعُونٌ مَنْ يَضْطَجعُ مَعَ امْرَأَةِ أَبِيهِ، لأَنَّهُ يَكْشِفُ ذَيْلَ أَبِيهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ. 21 مَلْعُونٌ مَنْ يَضْطَجعُ مَعَ بَهِيمَةٍ مَّا. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ. 22 مَلْعُونٌ مَنْ يَضْطَجِعُ مَعَ أُخْتِهِ بِنْتِ أَبِيهِ أَوْ بِنْتِ أُمِّهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ. 23 مَلْعُونٌ مَنْ يَضْطَجعُ مَعَ حَمَاتِهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ. 24 مَلْعُونٌ مَنْ يَقْتُلُ قَرِيبَهُ فِي الْخَفَاءِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ. 25 مَلْعُونٌ مَنْ يَأْخُذُ رَشْوَةً لِكَيْ يَقْتُلَ نَفْسَ دَمٍ بَرِيءٍ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ. 26 مَلْعُونٌ مَنْ لاَ يُقِيمُ كَلِمَاتِ هذَا النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهَا. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ" انتهى.
ومن أقبح ما فيه: الإخبار بأن عيسى عليه السلام قد لُعن من أجل تكفير خطايا الناس!
ففي رِسَالَةُ بُولُسَ إِلَى أَهْلِ غَلاَطِيَّةَ، الإصحاح الثالث: "13 اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ " انتهى.
والحاصل:
أن لعن من يستحق اللعن، أو الدعاء عليه، أو قتله- وهو أشد من اللعن ولا شك-، لا ينافي الخلق العظيم، بل هو من الشجاعة والقوة ووضع الشيء في موضعه، والرغبة في نصرة المستضعفين، والرحمة بهم، بطلب التخلص من أعدائهم ومضطهديهم، وكل ذلك من كمال الخلق.
وصدق المتنبي إذ قال:
وَوَضْعُ النّدى في موْضعِ السّيفِ بالعلى مضرٌّ كوضْع السيفِ في موضع النّدى
فالحكمة أن يوضع كل شيء من اللين والشدة موضعه .
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |