عنوان الفتوى : منهج الإمام البخاري في الرواية عن أهل البدع
هل صحيح أن البخاري -رحمه الله- أخذ روايات من بعض أهل البدع؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن رواية الحديث عن الرواة الصدوقين المتلبسين ببعض البدع غير المكفرة محل خلاف وتفصيل بين المحدثين، والذي جرى عليه عمل عامة المحدثين هو الراوية عنهم بضوابط، وقد سبق تفصيل هذا في الفتوى رقم: 219406.
وأما بالنسبة لصحيح البخاري وما فيها من الرواية عن أهل البدع: فقد تعرض لذلك الباحث أبو بكر كافي في أطروحته للماجستير -وهي بعنوان (منهج الإمام البخاري)- فقال: إذا تأملنا رجال البخاري -رحمه الله- نجد جملة كبيرة منهم قد رموا ببدع اعتقادية مختلفة، وقد أورد الحافظ في "هدي الساري" من رمي من رجال البخاري بطعن في الاعتقاد فبلغوا (69) راويًا، ومن خلال التتبع لهؤلاء الرواة يمكن أن نستخلص المعايير التي اعتمدها البخاري في الرواية عن أهل البدع، ويمكن أن نجملها في النقاط التالية:
- ليس فيهم من بدعتهم مكفرة.
- أكثرهم لم يكن داعية إلى بدعته، أو كان داعية ثم تاب.
- أكثر ما يروي لهم في المتابعات والشواهد.
- أحيانًا يروي لهم في الأصول لكن بمتابعة غيرهم لهم.
- كثير منهم لم يصح ما رموا به.
إذًا فالعبرة إنما هي صدق اللهجة، وإتقان الحفظ، وخاصة إذا انفرد المبتدع بشيء ليس عند غيره.
وما ذهب إليه البخاري هو مذهب كثير من المحدثين، ومن هؤلاء: تلميذه وخريجه الإمام مسلم؛ فقد روى في صحيحه عن أهل البدع والأهواء المعروفين بالصدق والإتقان، وخاصة إذا انضم إلى ذلك الورع والتقوى.
وما ذهب إليه الشيخان هو رأي أكثر الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإنما توقف من توقف منهم في الرواية عن أهل البدع إما لأنه لم يتبين لهم صدقهم، أو أرادوا محاصرة البدعة وإخمادها حتى لا تفشوا، ولكن شاء الله تعالى أن تكثر البدع وتفشو، وتبناها كثير من العلماء والفقهاء والعباد، فلم يكن من المصلحة ترك رواياتهم؛ لأن في تركها اندراسًا للعلم، وتضييعًا للسنن. فكانت المصلحة الشرعية تقتضي قبولها ما داموا ملتزمين بالصدق والأمانة.
قال الخطيب البغدادي -بعد أن ذكر أسماء كثير من الرواة احتج بهم وهم منسوبون إلى بدع اعتقادية مختلفة-: دوّن أهل العلم قديمًا وحديثًا رواياتهم واحتجوا بأخبارهم، فصار ذلك كالإجماع منهم، وهو أكبر الحجج في هذا الباب، وبه يقوى الظن في مقارنة الصواب.
وقال علي بن المديني: لو تركت أهل البصرة لحال القدر، ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي خربت الكتب. اهـ.
وبخصوص بدعة التشيع: فقد روى البخاري -رحمه الله- عن بعض الرواة المتهمين بالتشيع، لكن ينبغي التنبه إلى أمر مهم جدًّا، وهو أن مصطلح التشيع والرفض يختلف إطلاقه زمن السلف عمّا هو عليه في العصور المتأخرة، فبينهما بون شاسع جدًّا.
قال الذهبي: فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلًا من هو صاحب بدعة؟
وجوابه: أن البدعة على ضربين:
فبدعة صغرى؛ كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
ثم بدعة كبرى؛ كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة.
وأيضًا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلًا صادقًا ولا مأمونًا، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله؟! حاشا وكلا.
فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان، والزبير، وطلحة، ومعاوية، وطائفة ممن حارب عليًّا -رضي الله عنه-، وتعرض لسبهم. والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضًا، فهذا ضال معثر. اهـ. من ميزان الاعتدال.
وقال ابن حجر: فالتشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل عليّ على عثمان, وأن عليًّا كان مصيبًا في حروبه، وأن مخالفه مخطئ، مع تقديم الشيخين وتفضيلهما, وربما اعتقد بعضهم أن عليًّا أفضل الخلق بعد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-, وإذا كان معتقد ذلك ورِعا ديّنًا صادقًا مجتهدًا فلا ترد روايته بهذا, لا سيما إن كان غير داعية, وأما التشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض، فلا تقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة. اهـ. من تهذيب التهذيب.
فمن المقطوع به أن أئمة الحديث لم يكونوا يروون عمن يؤلّه عليًّا -رضي الله عنه-، أو من يقول بتحريف القرآن العظيم، أو يتهم أم المؤمنين بما برأها الله منه، أو من يتدينون بالكذب، أو من يكفر عامة الصحابة، ونحو ذلك من العقائد المهلكة.
والله أعلم.