الحمد لله.

لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بمكارم الأخلاق، والقيم الصحيحة، وما فيه صلاح العقل والقلب، وتهذيب النفوس، وتزكيتها وإصلاحها، وردها إلى الفطرة السليمة، وأنه زرع الخير ونشره، وعلم العبادات من مناسك وغيرها.

قال الله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ  آل عمران/164.

وروى أحمد (8952) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ وصححه شعيب في تحقيق المسند.

لكن هذه التعابير فيها تكلف، وفيها محذوران:

الأول: أن التعبير بالكلية أو بالجامعة قليل في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مبعوث للناس كافة، وقد أظهر الله دينه في الآفاق، وحج معه في حجة الوداع أكثر من مائة ألف، ودخل فيه إلى اليوم ما يزيد على المليار، فليس حاله كمن أسس كلية يتخرج منها بضعة آلاف أو مئات الآلاف.

الثاني: أن تعبير بالمؤسس فيه غفلة عن كون جميع المذكورات أتى بها الأنبياء والرسل قبله صلى الله عليه وسلم، وآمن عليها ما لا يحصيه الله من البشر، من آدم إلى عيسى عليهما السلام.

فهذه "الكليات" أسسها آدم، ثم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، وتأمل كم من المؤمنين آمن بهذه المعاني من أتباع موسى عليه السلام وحده.

وقد روى البخاري (5705)، ومسلم (220) عن ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ أُمَّتِي هَذِهِ؟ قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، قِيلَ: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلَأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلَأَ الأُفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَيَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ الحديث.

فهذا السواد العظيم الذي مع موسى عليه السلام قد آمن بجميع بما ذكر.

بل الذي يظهر أن هذه الألقاب المتكلفة المخترعة: فيها غض من مقام النبوة، وتلقيب للنبي الخاتم بما لا يليق بقدره، فقدر النبوة أعظم من ذلك، وقدر النبي صلى الله عليه وسلم وما يستحق من التعزير والتوقير أجل من ذلك كله، وهذه ألقاب إنما تصح لمن يحسن مثل هذه الأعمال من عُرض الناس؛ وأما النبي فشأنه أجل من ذلك. وقد قال الله عز وجل مؤدبا عباده: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ النور/63

" قال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود.

وقال مقاتل بن حيان .. : لا تسموه إذا دعوتموه: يا محمد، ولا تقولوا: يا ابن عبد الله، ولكن شرِّفوه فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله " انتهى، من "تفسير ابن كثير" (6/88-89).

وعليه؛ فينبغي ترك التكلف والاختراع، ونشر الخصائص العظيمة التي اختص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فهو المبعوث للناس كافة، وصاحب الشفاعة العظمى والمقام المحمود، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع، وصاحب لواء الحمد، والحوض المورود، وإمام النبيين وخطيبهم يوم القيامة، وأول من يعبر الصراط بأمته، وأول من يدخل الجنة، وأمته ثلثا أهل الجنة، إلى غير ذلك مما أكرمه الله به، ومن تأمل هذا علم أنه لا مقارنة بين هذه الفضائل وبين ما جاء في المنشور.

والله أعلم.