عنوان الفتوى : تأويل دعاء سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
هل دعاء سليمان بـ "لا ينبغي لأحد من بعدي" معناه أن لن يحصل أحد على كرامة أو معجزة خارقة للعادة من بعده؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس معنى قول سليمان -عليه السلام- "مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" أنه يريد ألا يحصل أحد على كرامة أو معجزة من بعده، وإنما معناه -كما قال أهل التفسير-: هب لي مُلكا لا أُسلبه كما سُلبته من قبل؛ أي: أعطني ملكًا لا يمكن لأحد من بعدي أن يَسلُبه مني. وقيل: ملكًا خارقًا للعادة خاصًّا بي، كما خص داود بإلانة الحديد، وعيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ليكون معجزة دالة على نبوتي. وقيل غير ذلك مما هو سائغ شرعًا؛ قال الطبري في التفسير: "قوله (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي) يقول تعالى ذكره: قال سليمان راغبًا إلى ربه: ربّ استر عليّ ذنبي الذي أذنبت بيني وبينك، فلا تعاقبني به (وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي) لا يسلبنيه أحد كما سلبنيه قبل هذه الشيطان".
ثم قال: "إِن قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ رَغْبَةِ سُلَيْمَانَ إِلَى رَبِّهِ فِي الْمُلْكِ، وَهُوَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، [ص:104] وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِي الْمُلْكِ أَهْلُ الدُّنْيَا الْمُؤْثِرُونَ لَهَا عَلَى الْآخِرَةِ؟ أَمْ مَا وَجْهُ مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ إِذْ سَأَلَهُ ذَلِكَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَمَا كَانَ يَضُرُّهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ بَعْدَهُ يُؤْتَى مِثْلَ الَّذِي أُوتِيَ مِنْ ذَلِكَ؟ أَكَانَ بِهِ بُخْلٌ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُلْكِهِ يُعْطَى ذَلِكَ مَنْ يُعْطَاهُ، أَمْ حَسَدٌ لِلنَّاسِ؟ كَمَا ذُكِرَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ؛ فَإِنَّهُ ذُكِرَ أَنَّهُ قَرَأَ قَوْلَهُ: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] فَقَالَ: إِنْ كَانَ لَحَسُودًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ. قِيلَ: أَمَّا رَغْبَتُهُ إِلَى رَبِّهِ فِيمَا يَرْغَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُلْكِ: فَلَمْ تَكُنْ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- بِهِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ إِرَادَةً مِنْهُ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ اللَّهِ فِي إِجَابَتِهِ فِيمَا رَغِبَ إِلَيْهِ فِيهِ، وَقَبُولَهُ تَوْبَتَهُ، وَإِجَابَتَهُ دُعَاءَهُ. وَأَمَّا مَسْأَلَتُهُ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ: فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: هَبْ لِي مُلْكًا لَا أُسْلَبُهُ كَمَا سُلِبْتُهُ قَبْلُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ: هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْلُبَنِيهِ، وَقَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ سِوَايَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِي فَيَكُونُ حُجَّةً وَعَلَمًا لِي عَلَى نُبُوَّتِي وَأَنِّي رَسُولُكَ إِلَيْهِمْ مَبْعُوثٌ، إِذْ كَانَتِ الرُّسُلُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَعْلَامٍ تُفَارِقُ بِهَا سَائِرَ النَّاسِ سِوَاهُمْ. وَيَتَّجِهُ أَيْضًا لِأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَهَبْ لِي مُلْكًا تَخُصُّنِي بِهِ، لَا تُعْطِيَهُ أَحَدًا غَيْرِي تَشْرِيفًا مِنْكَ لِي بِذَلِكَ، وَتَكْرِمَةً، لَتُبَيِّنَ مَنْزِلَتِي مِنْكَ بِهِ مِنْ مَنَازِلِ مَنْ سِوَايَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوجُوهِ مِمَّا ظَنَّهُ الْحَجَّاجُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ شَيْءٌ".
وقال ابن عطية في المحرر الوجيز: "أراد أن يفرده بين البشر لتكون خاصة له وكرامة، وهذا هو الظاهر من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته، فأخذه وأراد أن يوثقه بسرية من سواري المسجد، قال: «ثم ذكرت قول أخي سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فأرسلته». وقال قتادة، وعطاء بن أبي رباح: إنما أراد سليمان: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مدة حياتي، أي لا أسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني".
والله أعلم.