عنوان الفتوى : نفي الشك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله تعالى: (فلا تكونن من الممترين).
ما تفسير قوله تعالي : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) آل عمران /60 ، فإن كثيرا من الكفار العارفين بالقرآن يحاولون بتدليس معنى الآية ، ويقولون : إن النبي محمد نفسه كان يشك بالقرآن ، أنا ليس عندي شك أو إعتناء بكلامهم ، ولكن ما هو تفسير الآية ؟ وما هي أسهل طريقة لردهم علي كلامهم المشوش ؟
الجواب :
الحمد لله
أولًا:
قال الله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ آل عمران/60 ؛ وهذا نهي من الله جل جلاله ، لنبيه صلى الله عليه وسلم عن الامتراء.
ولا يلزم من ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع منه الامتراء حينئذ؛ بل خرج ذلك مخرج التقوية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتهييجه ـ أي: حثه وتشجعيه ـ على الثبات على ما هو عليه من اليقين، وعدم الركون إلى الظالمين، فإن من منن الله على نبيه أنه كان يثبت قلبه بمواعظ القرآن، وآياته، كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ هود/120-123 .
قال الزمخشري رحمه الله: " ونَهْيُه عن الامتراء - وجل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يكون ممتريًا - من باب التهييج ؛ لزيادة الثبات والطمأنينة..".
قال الطيبي رحمه الله: " في هذا الأسلوب فائدتان، إحداهما: أنه صلوات الله عليه إذا سمع مثل هذا الخطاب ، تحرك منه الأريحية فيزيد في الثبات على اليقين.
وثانيهما: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب الفظيع على أمر عظيم ، فينزجر عما يورث الامتراء؛ لأنه صلوات الله عليه وسلم بجلالته: إذا خوطب بمثله ؛ فما يظن بغيره ؟" انتهى " من فتوح الغيب" (4/ 128).
ومثل هذا قوله تعالى: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك قوله: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل [يونس: 94] : لا يدل على وقوع الشك، ولا السؤال، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شاكًا ، ولا سأل أحدًا منهم ... بل روي عنه أنه قال: (والله لا أشك ولا أسأل) .
ولكن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون" انتهى من "الجواب الصحيح" (2/ 357).
ومعنى الآية : إن كنت يا محمد - صلى الله عليه وسلم - في شك مما أنزلنا إليك أنه الحق ، فاسأل الذين يقرءون التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى ، فإنهم يعلمون أنه الحق ، فلا تكونن من الممترين الشاكين ، ولكن كن من المؤمنين الموقنين .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين الموقنين ، بل هو أعظم الناس إيمانا ويقيناً ، ولم يشك قط في الذي أنزل إليه من ربه أنه الحق ، ولم يسأل قط عن ذلك أيضا .
وقد صح عن سعيد بن جبير قال : " ما شك وما سأل " انتهى من " تفسير الطبري " (15/202).
وتعليق الحكم بالشرط، لا يستلزم تحقق الشرط ووقوعه ، كقولك للرجل : إن كنت لا تعرفني، فاسأل فلاناً ، فإن هذا لا يلزم منه أنه لا يعرفك .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والتقدير قد يكون معدوما أو ممتنعا، وهو بحرف (إن)؛ كقوله: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، و: إن كنت قلته فقد علمته ؛ والمقصود بيان الحكم على هذا التقدير؛ إن كنت قلته فأنت عالم به وبما في نفسي، وإن كان له ولد فأنا عابده، وإن كنت شاكا فاسأل؛ إن قدر إمكان ذلك؛ فسؤال الذين يقرءون الكتاب قبله، إذا أخبروا، فما عندهم شاهد له، ودليل، وحجة. ولهذا نهى بعد ذلك عن الامتراء والتكذيب.." انتهى من " النبوات " (1/180-181).
فمعنى الآية : إن كنت في شك فاسأل ، وإن كنت غير شاك فلا تسأل ، فإنما يسأل الشاك أو الجاهل ، أما العالم الموقن : فكيف يسأل ؟
ففي الآية نفي الشك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمْرُ الشاكين المرتابين أن يسألوا.
وفي الآية ونظائرها وجه آخر، وهو أن الخطاب، وإن كان ظاهره إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن المراد به غيره.
قال الإمام النووي رحمه الله في بيان وجوه الخطاب في القرآن الكريم:
" وربما كان الخطاب له مواجهة، والمراد غيره، كقوله تعالى: ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) ؛ ولا يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم قد شك قط في شيء مما أنزل إليه " انتهى، "شرح مسلم" (1/204-205). وأصله من كلام الخطابي في "معالم السنن "(2/7-8).
وقد أشار الإمام محمد بن جرير الطبري، رحمه الله، إلى هذين الوجهين في تأويل الآية ونظائرها، قال:
" فإن قال: فما وجه مخرج هذا الكلام إذن إن كان الأمر على ما وصفت؟
قيل: قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا استجازة العرب قول القائل منهم لمملوكه: إن كنت مملوكي، فانته إلى أمري؛ والعبد المأمور بذلك، لا يشك سيده القائل له ذلك أنه عبده.
كذلك قول الرجل منهم لابنه: إن كنت ابني، فبَرَّني؛ وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه.
وأن ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم، وذكرنا ذلك بشواهد، وأن منه قول الله تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [المائدة: 116] ؛ وقد علم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك.
وهذا من ذلك؛ لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكا في حقيقة خبر الله، وصحته، والله تعالى بذلك من أمره كان عالما، ولكنه جل ثناؤه خاطبه خطاب قومه، بعضهم بعضًا، إذ كان القرآن بلسانهم نزل. وأما قوله: لقد جاءك الحق من ربك [يونس: 94] .. الآية، فهو خبر من الله، مبتدأ، يقول تعالى ذكره: أقسم؛ لقد جاءك الحق اليقين من الخبر بأنك لله رسول، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم.
فلا تكونن من الممترين: يقول: فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك، وحقيقته.
ولو قال قائل: إن هذه الآية خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بها: بعض من لم يكن صحت بصيرته بنبوته صلى الله عليه وسلم، ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه، تنبيها له على موضع تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه، كما قال جل ثناؤه: يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما [الأحزاب: 1] كان قولا غير مدفوعة صحته " انتهى من " تفسير الطبري"(12/ 288).
وانظر الجواب رقم : (226728).
والله أعلم.