عنوان الفتوى : قول الصحابي: ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا هل يدل على مشروعية الزيادة في العبادة
١- هل يحق لنا أن نأخذ بمفهوم المخالفة في أحاديث رسول الله كأن نقول : "من أحدث في أمرنا هذا ما هو منه فهو مقبول" ، وفقا لمفهوم المخالفة للحديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وأن نستنبط من هذه المخالفة مشروعية الزيادة في العبادة على مالم يقله أو يفعله أو يقره رسول الله؟ ٢- وهل يدخل إقرار النبي للصحابي الذي قال عند الاعتدال من الركوع رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، في هذا المفهوم؟ ٣- وهل أقر النبي الصحابي عند الاعتدال من الركوع على الزيادة اللفظية فقط، أم أقره على مبدأ الزيادة بالعموم له ولمن بعده؟ ٤- وهل لي أن أنشأ دعاءً جديداً للاعتدال من الركوع تأسياً بالصحابي الذي أقره النبي على زيادته إن كان الإقرار على مبدأ الزيادة ؟ ٥- وهل لمن يفعل هذا سلف أو حجة؟
الحمد لله.
أولا:
سبق الكلام على مفهوم المخالفة وأنواعه في جواب السؤال رقم: (220167).
ثانيا:
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
ومفهومه: أن من أحدث في غير أمرنا أي في الأمور الدنيوية، فلا شيء عليه.
وأما من أتى في أمرنا ما هو منه، فهذا لا يكون إحداثا أصلا.
فالعبادة من أمره صلى الله عليه وسلم، فمن أحدث فيها ما ليس منها، كان مردودا عليه، كأن يزيد فيها ماليس منها، أو يلتزم لها كيفية أو عددا، أو يخصها بمكان أو زمان، مع عدم ورود ذلك.
وأما أن يأتي فيها بما هو منها، فهذا هو المطلوب، كمن زاد في تسبيح الركوع أو السجود، فإن هذا لا يكون إحداثا مذموما.
ومن ذلك أن يزيد في ألفاظ الحمد بعد الركوع، فإن هذا لا يعتبر إحداثا، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم من زاد، فدل على أن الأمر فيه واسع، كما أن المصلي له أن يدعو بما شاء في سجوده، إضافة إلى التسبيح الوارد.
وقد روى البخاري (799) عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، قَالَ: " كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَنِ المُتَكَلِّمُ قَالَ: أَنَا، قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ .
وقد جاء أن الصحابي هو رفاعة بن رافع نفسه، وأنه عطس، فقال ذلك، كما روى النسائي (931)، وأبو داود (773)، والترمذي (404) عن رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: " صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَطَسْتُ فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ فَقَالَ: مَنَ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ: مَنَ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ؟ ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ ابْنِ عَفْرَاءَ: أَنَا يَا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ ابْتَدَرَهَا بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مَلَكًا أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " قوله: قال رجل. زاد الكشميهني: "وراءه" . قال ابن بشكوال: هذا الرجل هو رفاعة بن رافع راوي الخبر، ثم استدل على ذلك بما رواه النسائي وغيره عن قتيبة عن رفاعة بن يحيى الزرقي عن عم أبيه معاذ بن رفاعة، عن أبيه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت الحمد لله، الحديث.
ونوزع في تفسيره به، لاختلاف سياق السبب والقصة.
والجواب: أنه لا تعارض بينهما، بل يحمل على أن عطاسه وقع عند رفع رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يكني عن نفسه لقصد إخفاء عمله، أو كنى عنه لنسيان بعض الرواة لاسمه" انتهى من "فتح الباري" (2/ 286).
وجاء في حديث آخر أن القائل أسرع ودخل في الصلاة وقد حفزه النفس، فحمد الله على ذلك.
كما روى مسلم (600) عَنْ أَنَسٍ : " أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا ".
وعند أحمد (12034): "فقال: أيكم المتكلم فإنه قال خيرا، ولم يقل بأسا ، قال: يا رسول الله أنا؛ أسرعت المشي، فانتهيت إلى الصف، فقلت الذي قلت. قال: لقد رأيت اثني عشر ملكا، يبتدرونها أيهم يرفعها ثم قال: إذا جاء أحدكم إلى الصلاة، فليمش على هينته، فليصل ما أدرك، وليقض ما سبقه ".
ويترجح بذلك : أن الإتيان بهذا الحمد كان لمناسبة، وليس لأجل الزيادة على حمد الركوع الثابت، والعاطس يشرع له الحمد بصيغ متنوعة.
وينظر في ذلك: "فتح الباري" (10/ 600).
وقد بوب النسائي لهذا الحديث بقوله: " قَوْلُ الْمَأْمُومِ إِذَا عَطَسَ خَلْفَ الْإِمَامِ"، وبوب له الترمذي بقوله: " بَابُ مَا جَاءَ فِي الرَّجُلِ يَعْطِسُ فِي الصَّلَاةِ".
وعلى فرض أن الصحابي أراد بذلك الزيادة على أصل الحمد الثابت بعد الرفع من الركوع، فإنه لم يزد إلا الثناء على الله تعالى، وهذا كالثناء عليه تعالى في الركوع والسجود، فلا حجر في ذلك، فقد عُلم أن الصلاة إنما شرعت لذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ رواه مسلم (537).
وأيضا: فإن الصحابي –في زمن التشريع- قد يجتهد في مثل هذا، لعلمه أنه إن كان فعله صوابا أقر عليه، وإن كان خطأ نبه عليه، كما يعلم ذلك من أمثلة عدة لاجتهادات الصحابة رضي الله عنهم في حياته صلى الله عليه وسلم، منها ما أقروا عليها، ومنها ما نبهوا على خطئها، كأبي إسرائيل رضي الله عنه، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، رواه البخاري (6704).
فلا يصح الاحتجاج بهذا على جواز الإحداث في العبادة مطلقا، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر مبدأ الزيادة مطلقا، لكن غايته جواز الزيادة في الثناء والذكر في الصلاة عن الوارد، وهذا لا إشكال فيه كما تقدم.
ولو دل هذا الحديث على جواز الزيادة في العبادة مطلقا، لما كان لتحذيره صلى الله عليه وسلم من الإحداث في الدين معنى، ولساغ لكل أحد أن يزيد في أفعال الصلاة وأقوالها ما يريد، وأن يخصص للأوقات والأمكنة عباداتٍ لم ترد، مضاهيا بذلك التشريع، وهذا معلوم بطلانه من عمومات الشريعة في النهي عن الإحداث والابتداع، وأن كل بدعة ضلالة، فيجب أن يفهم هذا الحديث في ضوء الأدلة الشرعية الكثيرة التي نهت عن الابتداع في الدين .
ثم ينبغي أن يعلم أن هذا الذكر وأتم منه قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس رضي الله عنهم، وبوب عليه النووي رحمه الله: " بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ".
ونحن نسوق هذا للفائدة.
روى مسلم (476) عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا رَفَعَ ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءُ الْأَرْضِ وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ ".
وروى مسلم (476) عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاءِ، وَمِلْءُ الْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، اللهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَالْمَاءِ الْبَارِدِ اللهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ ".
وروى مسلم (477) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ: اللهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ " .
وروى مسلم (478) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ " .
وليس لك أن تنشئ دعاء جديدا بعد الركوع، لكنك تحمد الله وتثني عليه، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن محسني البدع إنما يعتمدون على أقوال لبعض العلماء، ويستندون إلى شبهات مردود عليها، ولا يتسع المقام لإيراد ذلك.
وانظر في التحذير من البدعة الإضافية: جواب السؤال رقم : (6745)، ورقم : (250023)، ورقم : (246302)، ورقم : (160876) .
والله أعلم.