عنوان الفتوى : تحريم تغني الشعراء بالكذب وذم المبالغة فيه
وصلتني رسالة عبر أحد برامج التواصل، وهي لتشجيع ناد رياضي محلي في المملكة العربية السعودية هذا نصها: عفواً يا سادة إنه أكثر بكثير من كونه وطناً لنا إنه الهواء والماء، وإن شئتم فهو الروح بالنسبة لنا، فهل رأيتم من يتخلى عن روحه. وغفر الله للشاعر القائل: إِنْ مِتُّ مِنْ فَرْطِ الْمَحَبَّةِ فَلْيَكُنْ * كَفَنِي رِدَاءٌ أَسْوَدٌ أو أصْفَرُ لِأَظَلَّ بَعَدَ الْمَوْتَ فِي أَلْوَانَهِ * وَأَقَومُ أهْتِفُ بِاسْمِهِ إِذْ أُحْشَرُ هل تجوز هذه الأبيات؟ وهل يصح أن يقال إنها مجاز، مثلها مثل شعر حسان بن ثابت في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: خلقت مبرئا من كل عيب * كأنك قد خلقت كما تشاء؟ وهل يصح أن يقال إن الأبيات السابقة هي كذب، وإن أجمل الشعر أكذبه؟ أرجو البيان والإيضاح جزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا بالفتوى رقم: 19682، شيئا من مفاسد تشجيع الفرق الرياضية، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 57760.
وما ذكرت من هذا الكلام يؤكد هذه المفسدة؛ فقد غفل هذا المشجع إلى الحد الذي جعل فيه هذا الفريق منتهى أمله في الدارين، والواجب على المسلم ألا يتشبه بالكفار الذين ذمهم الله بإهمال أمر دينهم، وانشغالهم بالحياة الدنيا؛ فقال: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {الأعراف:51}.
فهذا الشعر مشحون بالغفلة عن العبودية لله، والاستعداد للآخرة، والوقوف بين يدي الله، والواجب على صاحبه أن يتوب إلى الله مما قاله .
وهذه الأبيات -كما ذكرت- كذب، ولو حُشر هذا الشخص لفر من أمه وأبيه، ولما نظر إلى حال ناديه، وقد قيل في الشعر: أعذبه أكذبه، ولا يعني هذا حِل نقله، وتداوله؛ قال ابن كثير: وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أكثر قولهم يكذبون فيه، وهذا الذي قاله ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ هو الواقع في نفس الأمر، فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، فيتكثرون بما ليس لهم، ولهذا اختلف العلماء، رحمهم الله، فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا: هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ على قولين. وقد ذكر محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد في الطبقات، والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على "ميسان" ـ من أرض البصرة ـ وكان يقول الشعر، فقال:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان، يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين قال: إي والله، إنه ليسوءني ذلك، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم {حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} [غافر:1-3] أما بعد فقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
وأيم الله، إنه ليسوءني وقد عزلتك، فلما قدم على عمر بكّته بهذا الشعر، فقال: والله ـ يا أمير المؤمنين ـ ما شربتها قط، وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني، فقال عمر: أظن ذلك، ولكن والله لا تعمل لي على عمل أبدا وقد قلتَ ما قلت.
فلم يذكر أنه حده على الشراب، وقد ضمنه شعره؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكن ذمه عمر، رضي الله عنه، ولامه على ذلك وعزله. انتهى.
فالتغني بالشعر لا يُرخص في قول المحرم، وأقصى ما يقال: إنه لو ذكر ما يوجب الحد كشرب الخمر؛ ففي إقامة الحد خلاف، وأما التعزير، فثابت، كما فعل به عمر ـ رضي الله عنه ـ.
وقد بينا معنى قول حسان ـ رضي الله عنه ـ بالفتوى رقم: 265513، فليس فيه إطراء، ولا مبالغة مذمومة.
ولو كان مقصود الشاعر الوطن، وليس الفريق فقط؛ فهي أيضا مبالغة مذمومة مستنكرة؛ كما بينا بالفتوى رقم: 206560.
والله أعلم.