حكاية المسجد الأقصى
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
جلس الجدُ صالح كعادتهِ دائمًا كل ليلةٍ مع أحفاده الثلاثة: مُحمد وعُمر وأسماء. لكنهُ في تلك الليلةِ كانَ شارد الفكر بعد سماعه نشرة الأخبار التي جاء فيها منعُ الاحتلالِ اليهودي الصلاةَ في المسجد الأقصى.
انتبه من شروده على صوت (عُمر) يُذّكرهُ قائلًا: ألنْ تحكي لنا اليوم حكايةً يا جدي؟!
ردّ الجدُ قائلًا: بلى يا ولدي.
سأحكي لكم اليومَ حكايةً ليست ككل الحكايا.
إنها حكايةُ لا بد أن تُحفر في قلوبكم يا أعزائي! إنها حكاية المسجدِ الأقصى.
قالتْ (أسماء): وكلنا آذانٌ مصغيةٌ يا جدي.
لكن (مُحمد) بدأ بالكلام وطرح سؤالًا: ولماذا هي ليست ككل الحكايا يا جدي؟!
قال الجدُ: لأنها يا ولدي جزءٌ من ديننا وعقديتنا؛ إنها حكاية ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.
قال (عُمر): هيا يا جدي فلتبدأ أرجوك، فكُلي شوقٌ لسماع الحكاية.
أغمض الجد عينيه لبُرهة، وأرجع رأسه إلى الوراء قليلًا كأنما يستذكر أمورًا كثيرة، ثم عاد لهيئتهِ وقال:
المسجد الأقصى يا أبنائي هو ثاني مسجد بُني على الأرض بعد المسجد الحرام.
وهو موجودٌ يا أحبتي في القدس من أرض فلسطين.
وقد عاش في هذا المكان الكثير من أنبياء الله عليهم السلام، وجرت هناك الكثير من الأحداث المهمة.
فهناك في بيت المقدس سكن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهناك عاش داوود وسليمان عليهما السلام، وهناك ترعرعت السيدة مريم وكفلها نبي الله زكريا ورزقه الله بيحيى عليهما السلام.
وفي تلك الأراضي المقدسة يا أحبائي عاش الكثير من الأنبياء يدعون إلى الله سبحانه وتعالى.
قالتْ (أسماء): يا لها من أرضٍ طيبة، شرفت بهؤلاء الأنبياء جميعًا!
قال الجد: بل انتظري قليلًا يا أسماء لتعرفي كم هي أرضٌ مباركة طيبة؛ باركها الله سبحانهُ وتعالى.
فقد كان بيت المقدس مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه عُرج به إلى السماء.
وفيه صلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إمامًا بجميع الأنبياء.
وعندما فُرضت الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، كان المسجد الأقصى هو قبلة المسلمين التي يتوجهون إليها في صلاتهم قبل أن يتم تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة بعد سبعة عشر شهرًا.
صمتَ الجد لحظة، فقفز (مُحَمد) من مقعده وقال: هيا يا جدي، لماذا توقفت؟
ابتسم الجد وقال: ها قد زاد شوقكم لمعرفة المزيد، أليس كذلك؟
رد الجميع في صوتٍ واحد: بلى يا جدي!
تابع الجد حديثه وقال: في بداية العصر الإسلامي، كانت القدس تحت سيطرة الروم، لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم بشّر المسلمين بفتحها.
وبالفعل يا أحبتي، ففي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، استطاع المسلمون فتح القدس ودخول بيت المقدس.
وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة المنورة إلى القدس ليتسلم مفاتيحها، وكتب إلى أهلها عهدًا وميثاقًا بالأمان.
ودخلت القدس وبها المسجد الأقصى تحت راية المسلمين لأول مرة كما بشَر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
هلل الأحفاد الثلاثة لما سمعوا واغتبطوا أيما اغتباط، وكأن المسجد الأقصى والقدس قد فُتحا لتوهما.
ابتسم الجد وأكمل قائلًا: قامَ عمر بن الخطاب يا أعزائي ببناء مسجدٍ صغيرٍ ومتواضع داخل أسوار المسجد الأقصى كي يصلي المسلمون فيه.
وفي العصور الإسلامية التالية، شهد المسجد الأقصى الكثير من الترميمات والتجديدات والمباني الجديدة.
فقد قام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ببناء مسجد قبة الصخرة الذي يقع داخل أسوار المسجد الأقصى، والبناء على شكل ثُماني، تعلوه يا أحبتي قبة مُغطاة بألواح النحاس الذهبي اللون.
وهذا المسجد هو درة من درر الفن المعماري الإسلامي.
ولا يزال موجودًا بفخامته إلى الآن.
قال (عُمر): أجل يا جدي فأنا أراه في الصور، وكنتُ أظنه المسجد الأقصى!
قالَ الجدُ: لا، يا عمر.
فهذا المسجد هو قبة الصخرة، وهو جزء من أجزاء المسجد الأقصى؛ فالمسجد الأقصى يا ولدي يضم كلَ ما بداخل السور، وله أربعة عشر بابًا منها باب المغاربة وباب الأسباط، وأربع مآذن، والعديد من الأسبلة، والمصاطب، والآبار، كما يضم أيضًا المُصلى المروانيّ، والجامع القبلي، والكأس المتوضأ، وحائط البراق.
قالت (أسماء): لم أكن أعرف ذلك يا جدي!
وقال (مُحمَد): ولا أنا يا جدي! ولكن ما معنى الأسبلة يا جدي؟
قال الجدُ: الأسبلة يا مُحمَد هي جمع كلمة (سبيل) وهو عبارة عن بناء من طابقين؛ الطابق الأول به بئر محفورة لتخزين مياه الأمطار، والطابق الثاني مرتفع عن سطح الأرض لتوزيع المياه.
وقد كانت تسمى في الماضي (سِقاية).
قال (مُحمَد): شكرًا لك يا جدي على تلك المعلومات الرائعة.
وقال (عُمر): هيا أكمل يا جدي أرجوك!
تابع الجد الحكاية قائلًا: تعرض المسجد الأقصى يا أولادي لعدة زلازل وهزات أرضية أدت لتصدعه وانهدام أجزاء منه، لكنّ خلفاء الدولة الإسلامية كانوا يسارعون في إعادة تجديده وترميمه والعناية به.
وفي أواخر القرن الخامس الهجري جاء الصليبيون من بلاد أوروبا واحتلوا القدس وأرض الشام، وارتكبوا الكثير من الفظائع بحق المسلمين وقتلوهم وذبحوهم، وحوّلوا المسجد الأقصى إلى مستودعٍ لأسلحتهم وأزالوا الهلال ووضعوا بدلًا منه الصليب، وجعلوا الأقبية الموجودة تحته اسطبلات لخيولهم!
قالت (أسماء): يا إلهي! وكيف استطاعوا فعل ذلك يا جدي؟ وأين المسلمون وقتها؟ لِمَ لم يدافعوا عن المسجد الأقصى؟
قال الجد بتحسّر: للأسف يا بُنيتي، لقد كان الحكام المسلمون متفرقين وكل واحدٍ منهم كان قد استقل بقطعة أرضٍ صغيرة يحكمها، بل إنهم كانوا يتقاتلون فيما بينهم، وقد قام والي المدينة الفاطمي بتسليم القدس للصليبين ودفع لهم مبلغًا من المال كي يخرجَ هو وحرسُهُ بأمانٍ من المدينة، وتركَ بقيةَ المسلمين هناك فقتلهم الصليبيون بلا رحمةٍ ولا شفقة.
قال (مُحمَد) بغضب: كيف يفعل ذلك؟! يالهُ من والٍ خائن.
قال الجد: نعم يا بُني، هذا ما حدث.
قال (عُمر): وماذا حدث للمسجد الأقصى بعد ذلك يا جدي؟ ألم يهب أحدٌ لنجدته؟
قالَ الجدُ: ظل المسجد الأقصى -يا ولدي- أسيرًا في يد الصليبين تسعين عامًا يعيثون فيه فسادًا وطغيانًا.
وقد ألهم الله سبحانه وتعالى بعض حكام المسلمين حبَ الجهادِ والرغبة في تحرير المسجد الأقصى واسترداده أمثال: عماد الدين زنكي، وولده نور الدين محمود زنكي.
لكنهم توفوا قبل أن يحققوا أملهم ويبلغوا مرادهم بتحرير المسجد الأقصى واسترداد القدس وبلاد الشام.
ومع ذلك فقد وحدوا معظم بلاد الشام ومصر ومهدوا الطريق أمام صلاح الدين الأيوبي.
وبعد أن تولى صلاح الدين الأيوبي زمام الحكم في مصر، واصل توحيد البلاد الإسلامية في الشام ومصر واستطاع التغلب على الصليبيين في معركة (حطين) وبعدها سار بجيشه نحو القدس فاستردها من الصليبيين، وخرجوا منها مدحورين.
ودخل صلاح الدين والمسلمون إلى بيت المقدس وأزالوا الصلبان والأوثان ونظفوا المكان وجددوه، ووضع صلاح الدين منبرًا في المسجد الأقصى كان السلطان نور الدين محمود زنكي قد أمر بإنشائه من قبل ليوضع في المسجد الأقصى عند تحريره.
وعادَ المسجدُ الأقصى بذلك إلى رحابِ الدولة الإسلامية وشهد العديد والعديد من التطويرات والإنشاءات خلال العهد المملوكي والعهد العثماني.
فرح الأحفاد وابتسموا وابتسم معهم الجد (صالح)، لكنه ما لبث أن علت وجَهَه معالمُ الحزن.
وفطِن الأحفاد لذلك، فسألته (أسماء): وماذا حدث بعد ذلك يا جدي؟
قال الجد: بعد أن كانت الدولة الإسلامية قوية ومتوحدة تحت راية واحدة خلال العهد العثماني، تفرقت مرة أخرى وتشتت واحتلت الدول الأوروبية الدول الإسلامية واحدة تلو الأخرى، ووقعت بلاد فلسطين والقدس تحت الانتداب البريطاني، الذي قام بتمكين اليهود من الدخول إلى فلسطين، ثم سلمها لهم لتبدأ معاناة بيت المقدس مرة أخرى تحت هذا الاحتلال اليهودي الذي ما يزال قائمًا حتى الآن.
قال (مُحمَد): وماذا يريد اليهود من بيت المقدس؟
قال الجد: إنهم يزعمون يا ولدي أن تلك البلاد بلادهم، ويريدون هدم المسجد الأقصى وبناء هيكل يهودي بدلًا منه.
وهم يسعون نحو ذلك بشتى الطرق والوسائل منذ احتلالهم لبيت المقدس وحتى وقتنا هذا.
لقد قاموا بطرد المسلمين من حول المسجد الأقصى وقاموا بالتضييق عليهم، كما قاموا أيضًا ببناء الكثير من المستعمرات اليهودية حوله، وغيّروا أسماء الأماكن في القدس وبيت المقدس إلى أسماء يهودية، وهم يحاولون بشتى الطرق هدم المسجد الأقصى لبناء هذا الكنيس المزعوم.
لقد حاولوا يا أحبتي حرق المسجد الأقصى في حريق هائل التهم أجزاءً كبيرة منه من ضمنها منبر نور الدين زنكي الذي وضعه صلاح الدين، كما إنهم يقوضون دعاماته ويحفرون تحته الأنفاق، ويمنعون ترميمه، ويمنعون المسلمين من الدخول إليه والصلاة فيه.
إنهم يحاولون تهويد القدس بكل ما أوتوا من قوة، وقد قاموا ببناء جدار عازل حول القدس ليعزلوها عن بقية أرض فلسطين.
ويقومون باعتقال وسجن وتعذيب كل من يحاول الدفاع عن المسجد الأقصى.
أطرق الأطفال حزنًا، لكنّ الجد تابع كلامه قائلًا: ولكن هيهات هيهات أن ينالوا مرادهم يا أطفالي! فانتبه الأطفال، وقال (عُمر): وهل سينتهي هذا الأمر يا جدي ويعود المسجد الأقصى للمسلمين؟
أجاب الجد: بالطبع يا ولدي، فالمسجد الأقصى لنا نحن المسلمين، ولن تقوم الساعة حتى نسترجع المسجد الأقصى كما وعدنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت (أسماء): أحقًا ما تقول يا جدي؟ أخبرنا من فضلك كيف سيكون ذلك؟
قال الجد: أجل يا (أسماء)؛ فالمسجد الأقصى عائدٌ إلينا لا محالة، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قبل قيام الساعة ستجري حربٌ كبيرة بين المسلمين واليهود وسينتصر المسلمون بإذن الله تعالى، وسوف يتكلم كل شيء في تلك الحرب؛ أجل، سوف تتكلم الأحجار والأشجار وتساند المسلمين وتدلهم على مكان اختباء اليهود؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقومُ الساعةُ حتى يقاتلَ المسلمون اليهودَ فيقتلُهم المسلمونَ حتى يختبئَ اليهودُ من وراءِ الحجرِ والشجرِ، فيقولُ الحجرُ أو الشجرُ: يا مسلمُ! يا عبدَ اللهِ! هذا يهوديٌّ خلفي فتعالَ فاقتلْه، إلا الغرْقَدُ فإنه من شجرِ اليهودِ» (مسلم:15009).
ولذلك فاليهود يُكثرون من زراعة هذا الشجر، ويقتلعون أشجار الزيتون وغيرها من الأشجار.
قال (مُحمد): وما الذي ينبغي علينا فعله يا جدي حتى نسترد المسجد الأقصى من اليهود؟
قال الجد: أحسنتَ يا مُحمد بطرح هذا السؤال.
يجب علينا يا أبنائي أن نحبَ المسجدَ الأقصى ونرتبطَ به ونتعرف عليه، ونُعرّف أهلنا وأصدقاءنا عليه وعلى فضله وأهميته؛ فهو أول قبلة للمسلمين، وثاني مسجد بُني في الأرض، وهو أحد المساجد الثلاثة التي يُشد الرحال إليها، وهو مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة فيه تعادل 250 صلاة في أي مسجد آخر سوى المسجد الحرام والمسجد النبوي، وهو مباركٌ ومباركٌ ما حوله، وهناك ستجري المعركة الفاصلة بين المسلمين واليهود، وهناك سيحتمي المسلمون من الدجال مع عيسى عليه السلام.
ويجب علينا يا أبنائي أن نتحلى باليقين بأن اللهَ سبحانه وتعالى لا شك ناصرُ المؤمنين، وأن العاقبة للمتقين.
كما يجب علينا أن نربي أنفسنا وأبناءنا على طاعة الله ورسوله والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، ويجب أن نُعد أنفسنا وأبناءنا على قتال اليهود عاجلًا أو آجلًا، وحب الجهاد والشهادة في سبيل الله، والدعاء لإخواننا المرابطين عند المسجد الأقصى لعل الله سبحانه وتعالى يُعجل بهذا اليوم الذي تقر فيه أعيننا باسترداد المسجد الأقصى.
قال الأحفاد الثلاثة: جزاك الله خيرًا يا جدي.
لقد عرفتنا اليوم على حكاية ليست ككل الحكايا، ونعدك يا جدي أن نفعل ما نصحتنا به.
قال الجد: بارك الله فيكم يا أحبائي، والآن حان وقت النوم.
أستأذن الأحفاد في الانصرافِ، وبقى الجدُ يفكر وحده، ودخل كل واحدٍ منهم إلى غرفتهِ، لكنهم باتوا تلك الليلة يفكرون في تلك الحكاية التي حُفرت في قلوبهم وما زالت كلمات جدهم ترن في آذانهم، وقد عزم كل واحدٍ منهم أن يطلب من جده في الليلة التالية إعادة حكاية المسجد الأقصى.
** المعلومات والحقائق الواردة بتلك الحكاية مأخوذة من كتاب (المسجد الأقصى..
الحقيقة والتاريخ)