عنوان الفتوى : التعزية بموت الفاسق والمبتدع.. رؤية شرعية
هل يجوز أن ينعى المسلمون بعضهم البعض في موت ممثلة أو فنانة كانت بعض أعمالها فسقا وفجورا، مثلًا: أن يقول المسلم لأخيه المسلم: "عظم الله أجركم في موت فلانة"؟ وشكرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن كان معروفًا بالفسق، مشتهرًا بالمعاصي، فلا بأس بتعزية أهله، وذويه في موته؛ لعموم مشروعية التعزية لأهل الميت في مصيبتهم، بل إن الشارع قد ندب إليها حتى ولو كان الميت كافرًا أو المعزى كافرًا؛ كما بينا بالفتويين: 10141، 12253.
وبالأولى التعزية في المسلم العاصي؛ وقد سئل الشيخ عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله تعالى ـ كما في مجموع فتاواه عن هذه المسألة فقال: (الحمد لله. لا بأس بالتعزية، بل تستحب، وإن كان الفقيد عاصيا بانتحار أو غيره، كما تستحب لأسرة من قتل قصاصا، أو حدا، كالزاني المحصن، وهكذا من شرب المسكر حتى مات بسبب ذلك، لا مانع في تعزية أهله فيه، ولا مانع من الدعاء له، ولأمثاله من العصاة بالمغفرة والرحمة، ويغسل ويصلى عليه، لكن لا يصلي عليه أعيان المسلمين مثل السلطان، والقاضي، ونحو ذلك، بل يصلي عليه بعض الناس من باب الزجر عن عمله السيء. أما من مات بعدوان غيره عليه فهذا مظلوم، يُصلَّى عليه، ويدعى له إذا كان مسلمـا، وكذا من مات قصاصا ـ كما تقدم ـ فهذا يصلى عليه، ويدعى له، ويعزى أهله في ذلك إذا كان مسلما، ولم يحصل منه ما يوجب ردته. والله ولي التوفيق). انتهى.
وأما تعزية المسلمين عمومًا فيه: فلا مكان لها هنا، بل الأولى تهنئتهم بموت من كان حاله على نحو ما ذكر، فالمسلمون يفرحون بموت من ينشر السوء، والفحشاء، والبدع؛ قال الأستاذ/ علوي السقاف: إن المسلم الحق كما يحزن لموت العلماء والدعاة إلى الله، يفرح بهلاك أهل البدع والضلال، خاصة إن كانوا رؤوسا ورموزا ومنظرين، يفرح لأن بهلاكهم تُكسر أقلامُهم، وتُحسر أفكارُهم التي يلبِّسون بها على الناس، ولم يكن السلف يقتصرون على التحذير من أمثال هؤلاء وهم أحياء فقط، فإذا ماتوا ترحموا عليهم، وبكوا على فراقهم، بل كانوا يبيِّنون حالهم بعد موتهم، ويُظهرون الفرح بهلاكهم، ويبشر بعضهم بعضا بذلك.
ففي صحيح البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم عن موت أمثال هؤلاء: ((يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب)) فكيف لا يفرح المسلم بموت من آذى وأفسد العباد والبلاد؟!
لذلك لما جاء خبر موت المريسي الضال، وبشر بن الحارث في السوق قال بشر: لولا أنه كان موضع شهرة لكان موضع شكر وسجود، والحمد لله الذي أماته،..(تاريخ بغداد: 7/66) (لسان الميزان: 2/308)
وقيل للإمام أحمد بن حنبل: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد، عليه في ذلك إثم؟ قال: ومن لا يفرح بهذا؟! (السنة للخلال: 5/121)
وقال سلمة بن شبيب: كنت عند عبد الرزاق -يعني الصنعاني-، فجاءنا موت عبد المجيد، فقال: (الحمد لله الذي أراح أُمة محمد من عبد المجيد). (سير أعلام النبلاء: 9/435) وعبد المجيد هذا هو: ابن عبدالعزيز بن أبي رواد، وكان رأسا في الإرجاء.
ولما جاء نعي وهب القرشي -وكان ضالا مضلا- لعبد الرحمن بن مهدي قال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه. ( لسان الميزان لابن حجر: 8/402)
وقال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية 12/338) عن أحد رؤوس أهل البدع: (أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره، ثم نقل إلى مقابر قريش، فلله الحمد والمنة، وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحا شديدا، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحدا منهم إلا يحمد الله).... انتهى.
فلا أقل من عدم التعزية لعموم المسلمين فيه، فليست هناك مصيبة بفقده، بل نعمة بتقليل الشر عن المسلمين.
وقد ذُكِر أن المسلمين فرحوا فرحًا عظيمًا في موت بشار بن برد -الشاعر الفاسق المعروف بالفسق في شعره، والهجاء المقذع-؛ جاء في الأغاني للأصفهاني:
قال: وأخرجت جنازته فما تبعها أحد إلا أمة له سوداء سندية، عجماء ما تفصح، رأيتها خلف جنازته تصيح: واسيداه واسيداه.
قال أبو زيد وحدثني سالم بن علي قال: لما مات بشار، ونعي إلى أهل البصرة، تباشر عامتهم، وهنأ بعضهم بعضا، وحمدوا الله، وتصدقوا؛ لما كانوا منوا به من لسانه. انتهى.
والله أعلم.