عنوان الفتوى : دفع التعارض بين قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر) وقوله: (إنا ستلقي عليك قولًا ثقيلًا)
كيف يجمع بين قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) ، وبين قوله : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ؟ وما رأيكم في من يقول : العلم سهل ؛ لأنني أذكر أن أحد أئمة المذاهب الأربعة يقول : بأنه ليس في العلم شيء سهل ، فلو تكرمتم بالتوضيح لي ؟
الحمد لله
أولًا:
أما قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر) [القمر: 17]، فقد بينا معناه، وذكرنا وجوه تسهيله في هذه الإجابات (243369)، (244165)، وذكرنا من وجوه تسهيله:
1- تيسير ألفاظه للحفظ .
2- تيسير معانيه للفهم .
وأن هذا التيسير يحصل لمن أخذ القرآن بحقه، وأقبل عليه إقبال المحب الطالب، ولم يعرض عنه إعراض الجافي .
وإن من وجوه هذا التيسير = أن الله قيض له من العلماء، من يبينه للناس، امتدادًا لما كلف الله به نبيه من بيان القرآن، وتيسير معانيه لهم .
ولك أن تعلم أيها القارئ الكريم أن القرآن جمع في أسلوبه بين خطاب العامة والخاصة، " فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء ، لنزلت بهم إلى مستوًى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب، ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء ، لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم .
فلا غنى لك -إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملًا من بيانك- أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى؛ كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال .
فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك ، فيراها كل منهم كأنها مُقَدَّرة على مقياس عقله ، وعلى وفق حاجته : فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم.
فهو قرآن واحد ؛ يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم ، لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد "، النبأ العظيم ، د. محمد عبد الله دراز (148).
ثانيًا:
وأما قوله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) [المزمل: 5]، فقد اختلف العلماء في بيان نوع الثِّقَل على أقوال:
1- فذهب بعضهم إلى أن الثقل إنما هو في نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يعرق عرقًا شديدًا حال نزول الوحي عليه .
2- وذهب بعضهم إلى أن الثقل في العمل به .
3- وقال بعضهم إن الثقل إنما هو على المنافقين .
4- وذهب آخرون إلى أن الثقل في الميزان، أي في ثواب القرآن .
ولا تنافي بين هذه الأقوال جميعا ؛ بل هي كلها من معاني "الثقل" في ذلك الكتاب المبين ، والنبأ العظيم .
قال الطبري: " وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله وصفه بأنه قول ثقيل، فهو كما وصفه به ؛ ثقيل محمله ، ثقيل العمل بحدوده وفرائضه"، تفسير الطبري: (23/ 366).
وقال السعدي: " أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يُتهيأ له، ويُرتل، ويُتفكر فيما يشتمل عليه "، التفسير: (892).
ثالثًا:
أنت ترى أن الثقل هنا قد وصف به القرآن المجيد في طريقة نزوله، وفي عظمه وقدره ، وفي حمله وأمانته ، وما جاء به من امور يجب العمل بها، وأخذها بحقها .
ولكن هذا الثقل يخففه الله تعالى لمن أقبل على القرآن طالبًا الهدى، كما قال تعالى في آية أخرى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة: 45]، فالصبر والصلاة والاستمساك بهما صعب، ولكن الله ييسره على الخاشعين، المنفذين لأوامر الله، المجتنبين نواهيه .
وهكذا القرآن، فإنه ثقيل، ولكن الله ييسره لمن أقبل عليه ، طالبا له ، متذكرا ، مذاكرا ، متدارسا له .
رابعًا:
مما ينبغي أن يُعْلم : أن العلم صعب سهل، وذلك: أن العلم الشرعي من معالي الأمور، ومعالي الأمور لا تنال إلى على جسر من التعب، والنعيم لا يدرك بالنعيم، ومن طلب الراحة فاتته الراحة.
لكن طالب العلم حقًا، يشعر في هذا الطريق بلذة العلم الذي يتمنى ألا يُشغل عنها بشاغل، فالعلم يسير سهل على من أخذ بمنهجه، وطلبه من بابه ، ومن عند أهله، ولكن الطريق إليه محفوف بالصعوبات التي يجب على الإنسان أن يقطعها .
يقول الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله :
" وطلب العلم له أصوله، وله رتبُه، فمن فاته طلب العلم على رتبِه وأصوله، فإنه يحرم الوصول. وهذه مسألة كثيرًا ما نكررها رغبة في أن تَقَرَّ في قلوب طلبة العلم ومحبِّي العلم، ألا وهي: أنْ يُطلب العلم شيئًا فشيئًا ، على مر الأيام والليالي، كما قال ذلك ابن شهاب الزهري الإمام المعروف، إذ قال: "من رام العلم جملة ، ذهب عنه جملة، وإنما يُطلب العلم على مر الأيام والليالي" .
وهذا كما تُدَرِّس صغيرًا أصول الكتابة، أو أصول نُطق الكلمات، فإنه لا بد أن يأخذه شيئًا فشيئًا، ثم إذا استمرّ على ذلك أحكم الكتابة، وأحكم النطق حتى تمكّن من ذلك، والعلم كذلك .
فالعلم منه صِغار ، ومنه كِبار ، باعتبار الفهم ، وباعتبار العمل ، وباعتبار كون العلم من الله جل جلاله ، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فإنه ليس في العلم شيء سهل، كما قال مالك رحمه الله تعالى ، إذ قيل له: هذا من العلم السهل، قال: ليس في علم القرآن والسنة شيء سهل، وإنما كما قال الله جل وعلا ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) [المزمل:5] .
فالعلم : من أخذه على أنه ثقيل صعب : أدركه .
وأما من أخذ المسائل على أنها سهلة، وهذه سهلة، وهذه مُتصوّرة، وهذه مفهومة، ويمرّ عليها مرور السريع : فإن هذا يفوته شيء كثير.
فإذًا لا بد لنا في طلب العلم من تدرج فيه، على أصوله، وعلى منهجية واضحة، ولا بد لنا أن نأخذ العلم على أنه ليس فيه شيء سهل؛ بل كلُّه ثقيل من حيث فهمُه، ومن حيثُ تثبيتُه، ومن حيث استمرارُه مع طالب العلم، فهو ثقيل ؛ لا بد له من مواصلة ومتابعة، فالعلم يُنسى إذا تُرِك، وإذا تواصل معه طالب العلم فإنه يبقى .
وهذا يُعظِّم التبعة على طالب العلم ، في ألا يتساهل في طلبه للعلم، فلا يقولن قائل مثلا: هذا الكتاب سهل، وهذا المتن ما يشرح لأنه سهل واضح، أحاديث معروفة، فإن هذا يُؤتى من هذه الجهة، حيث استسهل الأصول ، وعُقَد العلم .
وقد قال طائفة من أهل العلم: "العلم عُقَد وملح، فمن أحكم العقد سهل عليه العلم، ومن فاته حل العقد فاته العلم" .
وهذا إنما يكون بإحكام أصول العلوم. وإذا ضبط طالب العلم المتون المعروفة في الحديث، وفي العلوم المختلفة، فإنه يكون مهيئًا للانتقال إلى درجات أعلى ، بفهمٍ وتأسيس لما سبق . " انتهى ، من مقدمة "شرح الأربعين للنووية" للشيخ صالح آل الشيخ ، ن الشاملة .
وننصحك أن تطالع كتاب (حلية طالب العلم) للشيخ بكر أبي زيد رحمه الله ، و"صفحات من الصبر" ، للشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، رحمه الله ، وكتاب "المشوق" للشيخ علي العمران .
وراجع هذه الإجابات: (97012)، (10324).
والخلاصة
العلم يسير لمن أخذه بحقه، والقرآن يسير لمن أقبل عليه وتدبره، صعب لمن أدبر عنه، وابتعد عن العلم، وطريقه .
والله أعلم .