عنوان الفتوى : حكم من يسجل صديقه الغائب في كشف الحضور وحكم الإنكار عليه
عندنا في الجامعة طريقة لأخذ حضور الطلاب حيث إن حضور الطلاب له درجات في التقييم، فتمرر ورقة، ويكتب الحاضر اسمه، ورقمه الجامعي. بعض الإخوة -هداهم الله- يكتبون أسماء أصدقائهم، وأرقامهم، وهم غائبون، أليس هذا من الغش؟ وهل عليّ إذا جاءتني الورقة، ووجدت فيها أسماء أشخاص غائبين، أن أمسح أسماءهم من باب من رأى منكم منكرًا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن هذا الفعل من الغش، والكذب، والتزوير، وهو معصية ينبغي إنكارها؛ إما باليد، أو باللسان، أو بالقلب، بحسب القدرة.
ومن فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: اعتبار المصالح والمفاسد، وذلك داخل في الاستطاعة، إذ من الاستطاعة ما هو حسيٌّ، وما هو شرعي.
فما كانت مفسدته أعظم من مصلحته فذلك منافٍ للقدرة شرعاً، وإن استطاع فعله حسًا.
وأنت أعلم بتحقيق المناط في كل حالٍ من أحوالك المعينة، فإن غلب على ظنك أن مفسدة مسحك للأسماء المزورة أعظم، كأن يكونوا إن علموا بفعلك يحقدوا عليك، ويتحاملوا، وتأخذهم الحمية، والعزة بالإثم، أو أنهم قد يفعلون بك المثل في المستقبل من باب الانتقام، وغير ذلك، مما يسبب ضررا أعظم لك في دنياك، أو لهم في دينهم، أو فيهما، فلا تقدم عليه بيدك، لكن ناصحهم، وكلمهم، فإن لم يستجيبوا فلك الاقتصار على الإنكار بقلبك، بكراهية ذلك، لسقوط الإنكار بغيره عنك.
أما إن غلب على ظنك أن مصلحة ذلك أرجح، أو أنك تستطيع فعل ذلك من غير أن يعلموا بك فيكيدوا لك كيدًا، إما بيدك، وإما بإخطار الأستاذ بهم بغير علمهم، فذلك حينها يكون واجبًا عليك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر": [ فمعلوم أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإتمامه بالجهاد هو: من أعظم المعروف الذي أمرنا به؛ ولهذا قيل: "ليكن أمرك بالمعروف: بالمعروف، ونهيك عن المنكر: غير منكر"، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل، ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد؛ بل كل ما أمر الله به فهو صلاح. وقد أثنى الله على الصلاح، والمصلحين، والذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته، لم تكن مما أمر الله به، وإن كان قد تُرِك واجبٌ وفُعِلَ محرمٌ؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم، وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات، لم يضره ضلال الضُّلال. وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد. فأما القلب: فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وذلك أدنى -أو أضعف- الإيمان»].
وقال: [وهنا يغلط فريقان من الناس: - فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلًا لهذه الآية، كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته: إنكم تقرؤون هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشَكَ أن يعمهم الله بعقاب منه» . - والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى؛ إما بلسانه، وإما بيده مطلقًا، من غير فقهٍ، وحلمٍ، وصبرٍ, ونظرٍ فيما يصلح من ذلك, وما لا يصلح، وما يقدر عليه, وما لا يقدر، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني: سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا, وهوى متبعًا, ودنيا مؤثرة, وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا يَدانِ لك به، فعليك بنفسك، ودَعْ عنك أمر العوام؛ فإن من ورائك أيامًا الصبرُ فيهن على مِثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله»، فيأتي بالأمر والنهي معتقدًا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله، وهو معتدٍ في حدوده].
وقال: [وعلى هذا؛ إذا كان الشخص، أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوهما جميعا: لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر؛ بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته، وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات. وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه؛ وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف؛ ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا بمنكر, وسعيًا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يُؤمر بهما ولم يُنه عنهما. فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة. وأما من جهة النوعِ: فيؤمر بالمعروف مطلقاً، وينهى عن المنكر مطلقا. وفي الفاعل الواحد، والطائفة الواحدة، يؤمر بمعروفها، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمرُ بمعروف فواتَ أكثر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصولَ أنكرَ منه، أو فواتَ معروفٍ أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية؛ وإذا تركها كان عاصيا، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية. وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن هذا الباب إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن أبي، وأمثاله من أئمة النفاق، والفجور، لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوعٍ من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه]. اهـ.
والله أعلم.