أرشيف المقالات

كنوز في صعيد جرز: أخلاقنا البينية الكريمة

مدة قراءة المادة : 26 دقائق .
كنوز في صعيد جرز
أخلاقنا البينية الكريمة

يقول الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: ((وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتباذلين فيَّ، والمتزاورين فيَّ))[1].
 
ولم يقل سبحانه: وجبت محبتي للمحبين والزائرين والباذلين والمجاورين.
 
فهي معادلة، وهي علاقة متبادلة؛ لأن الطرف الذي قد يبذل بسخاء ولا يجد تفاعلاً من الآخذ، لا يلبث بعد حين أن يُجْهَد شعوريًّا ومعنويًّا، وقد يشعر بأن من حوله يقتاتون من قلبه، لولا رحمة الله.
 
فما يُقتات به قد ينضب إذا لم يتجدد، والله سبحانه وتعالى خالقنا، وهو أعلم بضعفنا وخفايا نفوسنا؛ لذلك أمرنا بالتكافل والتآخي، وسنَّ لنا أحسن الأخلاق بصفتها البينية، بل إنه ربطها بمحبته لنا، بل بوجوب تلك المحبة! تخيل! فما أعظم رحمته بنا وفضله علينا! وأكثر من ذلك أنَّه فطَرنا على هذا فِطرة تتجلى منذ طفولتنا، ففي الشهر التاسع من العمر، بعد أن يقلد الطفل ربط تعبيرات الوجه عن الحزن والسرور مع بعض الأعمال "يدرك أنَّ هذه المشاعر مشتركة بين الناس، فيُـري أهله ألعابه ليشاركوه السرور"[2]، سبحان الله!
 
وعندما تكون مسلمًا حقيقيًّا، فأنت تمارس هذه الطريقة في التعامل مع الناس بسهولة أكبر وبإخلاص، وهذه الطريقة تلخصها عبارة: "التخلُّق بخلق حسن"، فعن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأَتْبِعِ السيئة الحسنة تمحُها، وخالِق الناس بخلق حسن))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح،بمعنى أن هذه الأخلاقيات ليست من طرف واحد، بل هي تبادلية، وهي من تقوى الله، وفي الظروف الصعبة تزداد الحاجة لحسن الخلق، ويصبح هذا التخلُّق ضرورة كالماء والهواء.
 
أرسلت لي أخت قدمت لجارتها مساعدة خلال محنتها الشديدة تقول: "بعد عام من وفاة الابن الشاب، اختفى الابن الثاني، وبعدها بأسبوع خرج الأب ولم يعد، كنت أعمل ما هو أقل الواجب، بقيت الأم والبنيَّات في البيت لا يعرفن عنهما شيئًا، جالسات لا يأكلن ولا يشربن حتى آتي فأصنع لهنَّ طعامًا ولا أعود لأولادي وزوجي حتى يأكلن وأشاركهن الدعاء لله بالفرج، بقيت عشرة أيام على هذا حتى رجع الأب بحمد الله،، قالت لي جارتي بعد أيام لم ترني خلالها: "صرتم لي كالماء والهواء الذي أتنفسه"، لا تدرين كم أثَّر فيَّ كلامها، فهذا المعروف البسيط جعلها حائرة كيف تعبر عن امتنانها ورغبتها في ردِّ الجميل، وشعرت كم هو سهل كسب مودة الناس، وسؤال يحيرني:
لماذا لا نعامل الناس كما نحب أن يعاملونا لو كنا في نفس ظرفهم؟! لماذا الشقاق والخلاف؟! لماذا الطمع والكره والحسد؟!".
 
وعندما كتبت لها أن هذا واجبنا بداهة لإرضاء الله تعالى دون أن نفكر في أننا قد نصبح بمثل ظرفهم، ردَّت: "الحمد لله، لم أخبرك أن عملي كان على حساب أولادي وزوجي ولكن برضاه، إلا أنني أقصد الناس الذين لا يهتمون، ولو أن كل إنسان يعامل من حوله كما يحب أن يعاملوه، لعشنا بألفة ومودة".
 
وجعلتني كلماتها أتأمل حالنا وتراجع هذه الأخلاق الحميدة بين أكثر الناس الذين وصفتهم بفطرتها السليمة وسَعة أفقها بأنهم "لا يهتمون"، وجعلتني أتمنى أن يسأل كل منا نفسه تلك الأسئلة، ولا يفكر في تقصير "الآخر" تجاهه ويتغافل عن تقصيره هو أو ربما إساءته، بل يتذكر أصغر الأعمال وأكبرها من طرفين هو أحدهما، ويكتبها، ويضعها على كفتي ميزان.
 
ما هي الأخلاق الحسنة البينية؟
تلك الأخلاق تزداد وتتنوع باختلاف المجتمعات والظروف، ويجمعها عنوان عريض هو النصيحة النبوية الكريمة المذكورة: ((وخالق الناس بخلق حسن))، وهي تتراوح بين البساطة الشديدة والصعوبة النسبية: ابتداء بالتحية وليس انتهاء بـ"الدفع بالتي هي أحسن"، ومرورًا بالمودة والمحبة، والتباذل، والتزاور والتجالس، والتناصح والتواصي، وهي ألفاظ على وزن "تفاعل"؛ ذلك أنها أخلاق تفاعلية ولكنها تلقائية، فلا يستوجبها من الطرف الثاني المَنّ - أو خشية المنِّ بها عليه - بل الموجب تقوى الله تعالى والحب فيه، وسنوجز بعضها، لا سيما الواردة في الحديث القدسي المذكور، ونعيد الإشارة لبعضها في تتمة المقال:
تبادل التحية وإفشاء السلام:
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 86]، نص قرآني صريح، فإن اعتبرت عدم رد السلام "شيئًا هينًا" فإن ختام الآية يبهتك بأن "الله كان على كل شيء حسيبًا": هو بنظرك شيء، والله تعالى يخبرك أنه يحاسب على كل شيء، بل يتركك في حيرة عن كيفية هذا الحساب ومقداره، فلينظر أحدنا: كم يراكم على نفسه حسابات، لمجرد عدم رد التحية! وأعظم النار من مستصغر الشرر.
 
والمسلم الحقيقي يلقي السلام على من يعرف ومن لا يعرف، وعندما قرأت في الصحيح أن من علامات الساعة ألا يسلِّم المرء إلا على من يعرف، قلت لنفسي: فما حالنا وقد صار أمرًا عاديًّا ألا يسلم المرء حتى على من يعرف؟!
 
وإذا قيل: إن هذا سببه - غالبًا - الإلف أو قرب العهد، قلت: فما بال الصحابة يتبادلون السلام، فإذا حالت بين اثنين منهما شجرة ثم التقيا، أعادا تبادل السلام؟!
 
تبادل المودة والمحبة: لا يكتمل الإيمان إلا بتبادل "المحبة في الله" التي هدانا الله تعالى لها من بين الأمم، بل وجعلنا نتفاضل بها كما حدثنا رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إذ قال: ((ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حبًّا لصاحبه))[3]، ومن مفاتحها السلام (أعلاه)، والتهادي، قال صلى الله عليه وسلم: ((تهادوا تحابوا))، هو أمر نبوي جاء في صيغة تبادلية جلية للفعلين: السبب: التهادي، والنتيجة: التحاب.
 
التزاور والتجالس: من صفات المتحابين في الله تعالى هذا الخُلق البيني العظيم على بساطته: تزاور من غير مصلحة، بل في الله تعالى، وهو نتيجة وسبب، فهو من ثمار المحبة في الله كما أنه سبب زيادتها ودوامها، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملَكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّها؟ قال: لا، غير أنني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله تعالى قد أَحَبَّك كما أحببتَه فيه))[4].
 
معادلة المتباذلين في الله تعالى: ولا أجد مثالاً عليها يأخذ بمجامع القلوب والألباب مثل الذي أورده الإمام البخاري في الأدب المفرد تحت اسم: "باب دالة أهل الإسلام بعضهم على بعض":
قال: حدثنا عبدة، عن محمد بن زياد، قال: أدركت السلف وإنهم ليكونون في المنزل الواحد بأهاليهم، فربما نزل على بعضهم الضيف، وقِدر أحدهم على النار، فيأخذها صاحب الضيف لضيفه، فيفقد القدر صاحبها، فيقول: من أخذ القدر؟ فيقول صاحب الضيف: نحن أخذناها لضيفنا، فيقول صاحب القدر: بارك الله لكم فيها (أو كلمة نحوها)، وقال محمد: والخبز إذا خبزوا مثل ذلك، وليس بينهم إلا جدر القصب.
 
سبحان الله! هؤلاء فهموا معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: ((وجبت محبتي للمتباذلين فيَّ))، فوضعوها موضعها وأدوها حقها، فأين نحن منهم؟![5].
 
وتلك الأخلاق وردت في الحديث القدسي الذي افتتحت به، ويغمرني الامتنان لربي والحياء منه كلما قرأته ومرت بي مشاهد بضاعتنا المزجاة مقابل عظم الأجر! ويضاف لها التناصح والتواصي (سورة العصر)، والتجاور والتصادق، والمزيد من أخلاق كلها ضرورية ولازمة على إطلاقها، مع التركيز على طرفي العمر: الأطفال والمسنين (كما في المصطلح الطبي)، وعلى بر الوالدين وصلة الأرحام، وهنا فإن البعد البيني التبادلي للعلاقات قد يكون آجلاً كما قيل: "بروا آباءكم، تبركم أبناؤكم"، بل إن الأجَلَ قد يمتد ليوم الحساب كما في "التآخي" و"الدفع بالتي هي أحسن".
 
وأختم بمثالين للأبسط والأصعب من تلك الأخلاق:
فمن أبسطها: الابتسامة وطلاقة الوجوه، التي على يسرها إلا أننا في شح متزايد منها! روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق))، فأين نحن من طلاقة الوجوه على بساطتها؟! واليوم يشيع البخل بالابتسامة بين الأقربين، ونفس الشخص بعد ثوانٍ من رده تحيتهم مقطبًا، تجده يبتسم بعرض النواجذ للأباعد! قالت عائشة رضي الله عنها تصف نبيَّنا وقدوتنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: "كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم، إلا أنه كان بسَّامًا"، سبحان الله! حتى لأقرب الناس كالزوجة، يبقى التبسم درة الخصال الحميدة!
 
ومن أصعبها "التآخي" أو "المؤاخاة"، لا سيما على النمط المهاجري الأنصاري، لدرجة الاستحالة تقريبًا وقد استغرقنا حب الدنيا، وبديهي عندما أكون أخًا لك أن تكون أخي، ولكن عملية المشاركة في كل ما يملكه الأخ المسلم المستقر مناصفة مع الأخ الذي هاجر إليه تدل على فهم إيماني عميق وعملي للتآخي، ويقين بأن المقابل في الأخلاق التبادلية حتمًا ليس هو المثل المادي، وهي مسألة يصعب فهمها على كثيرين، لا سيما أبناء التربية المادية البحتة![6].
 
ولتنجح في تحقيق تلك الأخلاق، وفي السمو بنفسك عن الأغلال الأرضية والمخاضات، تذكر أنك تبتغي وجه الله تعالى، ثم ضع نفسك مكان الطرف الآخر، فالمشكلة أننا نتوقع من الآخرين أشياء كثيرة ولا نشعر - لسبب أو لآخر - أن علينا نحوهم مثل ذلك أو "أحسن منه"، كما أمرنا تعالى في آية "التحية"، بينما من الشائع - مع الأسف - سماع إجابات صارت كالختم الجاهز لإغلاق مثل هذه المواضيع؛ منها:
• أنا لست مثلهم، لا وجه للمقارنة.
• هذا كلام عام جدًّا.
• تحملته طويلاً، الآن انتهى.
• دفعت بالتي هي أحسن ولم ينصلح.
• عندي مشاكلي الخاصة، لا وقت لدي، لا طاقة عندي.
 
بالمقابل تسمع في جلسات العتاب قائمة الطرف الواحد: أنت لم تفعل، أنت قلت، انظر لنفسك، ليس من حقك، لا، لم...، وتأتي رشًّا ودِراكًا، ليصمت الآخر، وقد يرد برعونة، وقد تهرب منه الحجج والكلمات، وغالبًا الحق مع "البعض الألحن من بعض"، وكأن كلاًّ منا بيده كشاف يوجه ضوءه لأيِّ مكان، إلا لنفسه!
 
بينما لو نظر المتكلم المفوه لذاته، لوجد أن تعامله مع الآخر على أحسن الفروض هو تعامل إنسان متطلب وناقد نقدًا سلبيًّا على نمط اللمز والتنابز، وهذه أخلاق بينية سيئة، ولو أنكرنا ذلك وحاولنا أن نتنصل منها، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [الحجرات: 11]، فعندما تلمز أخاك، أنت تلمز نفسك[7]، أما أسوأ الفروض فهو الاستسلام لنزغ الشيطان المبعِد عن الإيمان لا سمح الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعَّان، ولا باللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء))؛ رواه الترمذي، وأسوأ الفروض هو إخفاء الخير عن الناس بدل التواصي به، وللأهمية أُفردُ بعض أسباب غياب تلك الأخلاق، وبعض عقبات استعادتها:
غياب الأخلاق البينية، كيف ولماذا: إن هذه الظاهرة التي أصبحت أمرًا عاديًّا في المجتمع الصناعي المادي شرقيه وغربيه، بدأت تستشري في مجتمعنا المسلم مع الأسف، وقلت الهبات الإنسانية كثيرًا، ومحظوظ هو من يتوقف عن اللهاث المسعور بين فينة وأخرى؛ ليقدم هبة من القطر الإنساني، ويستقبل أخرى.
 
ويعود تراجع تلك الأخلاق لأسباب كثيرة تربوية واجتماعية، لا يمكن حصرها في مقال، وأغلبها مستحدث، وهي تخل بهذا التوازن الأخلاقي الذي ينبغي أن يتميز به المجتمع الأخلاقي الحقيقي؛ منها:
♦ أخطاء في التربية زرعت في الناشئين، وتجذرت على عقود بين المسلمين، ومن جيل إلى جيل تضخمت ضخامة مرَضيَّة حوَّلها البعض لمبادئ فاسدة؛ منها على سبيل المثال:
• مبدأ الربح والخسارة الدنيوي: وتربية الأبناء على قياس الأخلاق بمردودها الدنيوي هو فشل ذريع أخلاقيًّا وماديًّا (لأنه يغفل عن الربح الحقيقي في الآخرة)، وأكثر الناس يحسبونها: ماذا أستفيد إذا زرت فلانًا؟ أو حضرت هذه الحلقة في المسجد؟ وربما أخسر إذا أوصيت هذا ونصحت ذاك، لن أنصحه حتى لو نصحني!
 
بينما سورة العصر تخبرك أن المقياس الحقيقي للربح والخسارة هو العكس تمامًا، وأن التواصي والتناصح هو الذي ينجيك من الخسارة الماحقة، قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3]، وكأنه حصن ثلاثي الأبعاد للحماية من الخسران:
• أساسه الأول: ﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾.
 
• والبعدان الثاني والثالث له: "التواصي بالحق" و"التواصي بالصبر"، وانظر إلى إعجاز الكلمة في قوله تعالى: ﴿ وَتَوَاصَوْا ﴾ فهو فعل تبادلي: أنا أوصيك وأنت توصيني؛ فالتواصي والتناصح من أسس تكافل المجتمع؛ حتى يستمر معافى من الآفات التي تفتك اليوم بالجماعات والأفراد.
 
• مبدأ: "واحدة بواحدة": الذي يلغي الغيرية، ويضعف روح المبادرة[8].
 
• مبدأ عليك بنفسك: وتضخيم الخوف من التحسس والتجسس، ولأن هذا يصادم الفطرة؛ فإن الفراغ الناتج يملؤه الإنسان - والناشئ بشكل خاص - بعلاقات عشوائية وأخلاق بينية غير سليمة، أو مجافية للهدف الإسلامي للحياة.
 
• وأخطاء تربوية أخرى.
 
♦ تقديس المظاهر الفارغة، والإغراق في السفاهة والتفاصيل التافهة، وحصر الاهتمام والتنافس بها، وبناء المودة والبغض على أساسها! وأصبح السفهاء يمثلون شريحة مجتمعية متعاظمة، لا سيما في الأسر حديثة النشأة، وهؤلاء اهتماماتهم كالذي ﴿ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ﴾ [الملك: 22]، وقلما يبالون بالأخلاق البينية الإسلامية، فتسربل الغربة بينهم روح الإنسان برداء مزيف من التجمع والعلاقات الاجتماعية الوهمية.
 
♦ الاستغراق في الذات: وهو مطب ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾ [الأعراف: 12] الشيطاني، الذي يجعل المرء يسلط الضوء على أخطاء الآخرين وتقصيرهم وينأى بنفسه، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه))؛ (رواه ابن حبان، وصححه الألباني)، مما يترتب عليه فجوة قد تتحول إلى هُوَّة؛ لأن الآخر الذي في عينه القذاة في الحقيقة ليس أعمى، وهو يرى الجذع في عينك ولو أغفلته، بينما أنت تكيل له التهم!
 
إضاءات في الوقاية والعلاج:
إن المجتمع بالمحصلة هو أنا وأنت وهو، مسلمون نطيع الرسول، نحبه ونقتدي به:
إلا أننا لا نبتسم، لا نهتم بقول أو عمل التي هي أحسن.
إلا أننا لا نحسن: صنائع المعروف!
إلا أننا لا نشفع، بل نكرر (فخار يكسر بعضه)، مع أن هذا إنسان، وليس فخارًا!
ولا نعتذر، والأدهى لا نقبل اعتذار الآخر! ولا نحسن الظن، وقد نستغل حسن ظن الآخرين.
 
والمزيد مما يعلمه كل منا في نفسه ومن حوله، ولتدارُكِ المشكلة سبل عديدة أكتفي بخطوات؛ منها - وهي ممكنة للجميع بعون الله تعالى -:
1-  القيام بعمل فاعل إيجابي:
• سلوك تفاعلي عام تؤديه بانتظام: فإذا لم يكن ثمة خير ساقه الله إليك، فتَحَرَّ أنت مواطنه حولك، وكل إنسان أدرى بنفسه وظروفه وطاقاته، والبسيط منها متيسر؛ مثل:
♦ التحية والتعبير عن المودة بالقول أو العمل: وهو غذاء نفسي في الحال الطبيعية، فما بالك في أزمان البلاء؟! هو عمل أثمن مما تتخيلون؛ إذ ينعش الروح ويزيد الأمل.
 
♦ الدعاء: فهو خلق تبادلي بيني رائع، حتى لو كان لأخ لك بظهر الغيب، وقد يدهشك ذلك، فالأخ هنا لا يعلم ليدعو لك بمثله، ولكن أبَتْ رحمة الله تعالى إلا جعل هذه المعادلة الأخلاقية قائمة، فأوكل ملَكًا بدور الطرف الآخر؛ لتثبيت صفة التفاعل في الدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا لأخيه بظهر الغيب، قال الملَك الموكل به: آمين، ولك بمثل ذلك))؛ صحيح مسلم، سبحانك ربنا! ما أكثر دعائم التعاضد المقوية للأمة التي وهبتها لنا ونحن عنها غافلون!
 
♦ التناصح والتواصي بالخير: ونذكِّر بسورة العصر: إيمان؟ أنت تؤمن، عمل الصالحات؟ بلى تبتغي وجه الله تعالى، ولكن التواصي: هنا لا يصلح أن تكتفي بنفسك، ولا هو بنفسه، والآية أفردت التواصي رغم أنه من الصالحات.
 
♦ قول التي هي أحسن فيما نتكلم به أو تخطه أيدينا من خاطرة أو رسالة، وهو من أهم الأعمال التفاعلية اليومية البينية التي أمرنا تعالى بها لـلَجْمِ نزغ الشيطان بيننا، قال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]، وفي حلقي غصة من كثرة من لا يحسنون قولها مع ذلك، رباه ارحمنا!
 
عمل خاص بك:
ومن أجلى الأمثلة القرآنية: الدفع بالتي هي أحسن: قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35]، وأنا لا أقول: إنه عمل سهل، ولكنه ممكن لمن صبر وبذل، فالكلمة القرآنية المعجزة: ﴿ ادْفَعْ ﴾ تذكرنا بأن عملية الدفع فيها جهد ومشقة، وبقدر ما عندك من نصيب وحظ من الأداة الدافعة: "التي هي أحسن"، وبقدر قوتها في نفسك ورصيدها في عملك، بقدر نجاحك في الدفع وتحقق ثمرته بإذن الله سبحانه.
 
والعداوة لها طرفان هما: ﴿ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ﴾، فالآية موجهة لك وله، وعندما تشف نفوس الطرفين لكلمات الرحمن فهي تتشربها، وأيهما شرع بذلك الدفع الحسن وجد الآخر مستعدًا للاستجابة، بينما تعسر المشكلة في مجتمع طغت فيه أسباب غياب التخلُّق بخلق حسن؛ مثل: الكبر والأنا الذي أشرت له، لا سيما عندما تكون العداوة بين الأرحام، بل الأشد قربًا منهم، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14]، وفي الآية بعض سبل "الدفع بالتي هي أحسن"؛ مثل: العفو والصفح والمغفرة، وأنت رابح على كل حال، فحتى لو لم تذق جنى ذلك في الدنيا ولم يتحول العدو إلى ﴿ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ لحكمة أرادها الله تعالى، فهو سبحانه يربيها لك - تلك الطاعة - أعظم ثوابًا في الآخرة بما لا يقاس.
 
ومن الأمثلة النبوية: حديث التزاور في غير مصلحة: وقد أوردته أعلاه، والمؤسف اليوم أنه أصبح للتزاور طقوسه المعقدة، وفقَدَ عفويته والروحانية المرافقة له، وتقلص كمًّا وكيفًا! بينما هو منحة عظيمة، ألا يكفي أنها تستوجب محبة الله تعالى لنا؟! فلنحاول أن نستعيدها باستعادة بساطتها وبعدها عن التكلف.
 
2- اجتناب سلوك خاطئ مارسته أو كدت:
سئل ابن المبارك عن حسن الخلق، فقال: "هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى"، وحسب قوانين الفيزياء فإن السكوت على ما لا يصلح والعمل به يوصل إلى ما يسيء ويهدم، وهذا سيسد المنافذ أمام الضوء والهواء، فيصاب الناس بالغفلة عما يرضي الله تعالى ويحبه[9]، وبعض نتائج ذلك: اللامبالاة بالأخلاق البينية الحميدة؛ لذلك كان اجتناب السلوك الخاطئ لا يقل إيجابية عن إتيان الأعمال الخيرة، وهو بدوره عمل، وكذلك سماه الله تعالى في سورة آل عمران 135-136، قال تعالى: ﴿ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 136].
 
♦♦ وأول تلك الأعمال أن نتجنب الخلاف أو ما يفاقمه ما استطعنا، ولا أقول بأن يزول الاختلاف، فهو من طبيعة البشر، ولكن أن تروض النفوس على قبوله، وعلى استمرار الأخلاق البينية رغم وجود الخلاف، ولقد صنـف علماؤنا في "أدب الخلاف" ما يجدر بنا نشره والعودة له.
 
♦♦ ويقع ضمن ما يجب تجنبه ممارسات يومية قد لا نلقي لها بالاً، وهي تفضي إلى تراجع التخلُّق بخلق حسن رغم تأكيد النهي عنها في القرآن والسنة، وهي كثيرة مع الأسف:
مثل: "الجهر بالسوء من القول": قال تعالى: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾ [النساء: 148]، لنحل محلَّه قولَ التي هي أحسن، وهو - كما مر - قول يعاكس نزغ الشيطان ويرغم أنفه، وأؤكد على تربية الناشئين على انتقاء المفردات، ولنتذكر أنهم يرقبوننا ويقلدوننا بإتقان أكبر وأعمق مما نظن.
 
ومثل: السخرية والاستهزاء: ذلك الخلق السلبي المسيء الذي قد ترتكب خلاله المحرمات[10]، وهو موضوع واسع.
 
♦♦ ناهيك عن الأسوأ الذي ينخر في المجتمع المسلم؛ مثل: الطمع والحسد، والنميمة والبهتان، ومثل الثلاث المهلكات: قال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه))؛ وحسنه الألباني.
 
فالتخلص من تلك الممارسات بداهةً يجعلنا نستعيد الأصلح بإذن الله مما أوردنا بعضه من التخلُّق بخلق حسن.
 
والحمد لله أولاً وأخيرًا.
 
اللهم أعنا على الابتلاء، واجعل قلوبنا تتراحم (فالتراحم خلق تفاعلي)، وأعنا على استصلاح مجتمعاتنا التي تكاد تغدو "صعيدًا جرزًا"، رغم اكتظاظها الظاهر للعيان بنباتات ليس لها جذور.



[1] والحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (5/233)، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (2581)، وفي لفظ: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يحب الذين يتحابون في الله، ويحب الذين يتقاعدون فيه، ويحب الذين يتباذلون فيه، ويحب الذين يتزاورون فيه، ويحب الذين يتجاورون فيه))، ولفظ فيه إضافة: ((والمتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله))، زاد الطبراني في روايته: ((والمتصادقين فيَّ)).


[2] سبحان الله! ولقد استوقفتني هذه العبارة من مرجع طب الطفل الجامعي: كتاب المرجع في طب الأطفال: Nelson Textbook of Pediatrics


[3] حديث ((ما تحاب اثنان))، صحيح الجامع الصغير، ص137 من المجلد الخامس، برقم 5470.


[4] حديث "الذي زار أخًا له" النووي في كتاب الأذكار، عن صحيح مسلم، ومدرجته: طريقه، تربها: تحفظها وتراعيها (ص301 رقم الحديث22/672 تحقيق د.
محيي الدين مستو - دار الكلم الطيب)
.


[5] شرح الأدب المفرد للبخاري، المسمى "فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للبخاري" - ت: فضل الله الجيلاني - وقال الشارح: "عبدة هو أبو سعيد المروزي، ثقة صدوق، مات في دمشق344هـ، ومحمد بن زياد الألهاني هو أبو سفيان الحمصي، ثقة".


[6] انظر كتابي: الثابت والمتغير ص 26 / نشر دار الفكر.


[7] كتاب السخرية والاستهزاء في الميزان التربوي والأخلاقي، د.
غنية عبدالرحمن النحلاوي / نشر دار الفكر.


[8] ومن هذه الأخطاء التربوية في حساب الأرباح والخسائر، وفي مبدأ واحدة بواحدة: عدم تربية أبنائنا على المعادلة الحقيقية للربح، كما في الحديث الصحيح التالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها))؛ (صحيح البخاري).


[9] والمزيد في مقال: "فهمنا الخاطئ للغفلة" على الألوكة.


[10] انظر كتابي: الثابت والمتغير ص 26 / نشر دار الفكر.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير