عنوان الفتوى : يعمل مدرسا للتاريخ ويسأل عن بعض الإشكالات المتعلقة بعمله.
عندي استفسار هام جدا ، أعمل كمدرس للتاريخ ، وعندي مجموعة من الأسئلة ، أرجو الإجابة عليها : 1- أدرس للطلاب تواريخ الحضارات القديمة ، وما كانوا يؤمنو به قديما ، فهل هذا جائز ؟ 2- في أحد المراحل توجد اتهامات وافتراءات لحقبة معينة ـ وقد تكون الحقيقة عكس ذلك ، وأنا أقوم بتدريس ما ورد في المنهج ـ وقد يمدحون من حارب الخلافة العثمانية ، ويتهمون بعض الفصائل الإسلامية بالتطرف والإرهاب ، فهل علي إثم ، وقد يكون هناك وجه آخر للحقيقة لم يذكروه ؟ 3- هل التحدث عن من مات والأحداث التي حدثت و، قد نذكر بعضهم ، ونذكر أفعالهم السيئة ، فهل هذا يعد من الغيبة ؟
الحمد لله
أولا:
لا شك أن الدراسة النظامية اليوم من الحاجات الملحة لكل فرد، وفواتها سبب لفوات مصالح جمة بل فواتها يضع الشخص في حرج ومشقة شديدة في حياته.
ومن المعلوم أن المدارس لا تكاد تخلو من مخالفات شرعية بعضها يتعلق بمحيط الدراسة وبعضها الآخر يتعلق ببعض المواد الدراسية كالموسيقى وبعضها يتعلق بمناهج ومحتويات بعض المواد .
ومن هذا مادة التاريخ؛ فهي مادة نافعة في أصلها، لكن في طريقة تدريسها تأثرت بعض بلدان المسلمين بالمناهج الغربية الكافرة؛ حيث يغيب عنها الجانب الإيماني في تحليل الوقائع التاريخية، كما تسعى إلى ترسيخ الافتخار الجاهلي بالعرق والأرض في نفس الطالب، وتتخلى عن الأصول الشرعية في نقد الأشخاص والجماعات ، فيغيب عنها الالتفات إلى حرمة الغيبة وإلى وجوب إنكار المنكر والإشادة بالمعروف وغيرها من الأحكام.
ثانيا :
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة من شعائر الإسلام العظيمة ، وهو من أعظم أسباب الخيرية في هذه الأمة .
قال الله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) آل عمران/110
وقال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) التوبة/71
وينظر جواب السؤال رقم (3871) ورقم (11403)
غير أن تغيير ما يقع من المنكرات ، أو النهي عنها ، وإقامة ما يعرف من الخيرات ، أو الأمر بها : إنما يكون بحسب استطاعة المكلف ، كما هو الحال في عامة التكاليف الشرعية .
وقد دل على ذلك بخصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول االلهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ . رواه مسلم (49).
وحينئذ ، فمن المعلوم أن مدرس مثل هذه المواد والمقررات التعليمية : لا يمكنه تغييرها بيده ، فإنه لا يملك وضع المناهج بنفسه ، ولا يملك أيضا حذف شيء منها ، وإنما غاية ما يملكه أمران :
الأول : الإنكار القلبي ، والبغض لما في هذه المناهج من الأخطاء والمنكرات الشرعية .
الثاني : تنبيه الطلاب على ما يقع فيها من أخطاء شرعية ، أو علمية ، بحسب استطاعته ، ولو بلحن الكلام ، والإشارة ، إن كان التصريح بالإنكار ، والتنبيه على الأخطاء مما يعرضه للمساءلة القانونية ، أو ما لا يحتمله من الأذى والضرر ، ومثل هذا الضرر الزائد : إنما يكون عادة في الأمور الواقعية ، وما له تعلقات سياسية ، ولا يقع غالبا في مسائل التاريخ .
فبحسبه : أن ينبه على ما يراه من أخطاء ومنكرات ، تنبيها عاما ، يحصل به المقصود ، مع تفهيم الطلاب لما هو موجود بالفعل في مناهجهم ، وأن هذا هو المطلوب منهم في اختباراتهم ؛ ولا يكلف الله نفسها إلا وسعها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ما يشترط في القضاة ، والولاة ، من الشروط : يجب فعله بحسب الإمكان . بل وسائر شروط العبادات ، من الصلاة والجهاد وغير ذلك : كل ذلك واجب مع القدرة .
فأما مع العجز : فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها .
ولهذا أمر الله المصلي أن يتطهر بالماء ، فإن عدمه ، أو خاف الضرر باستعماله ، لشدة البرد أو جراحة ، أو غير ذلك : تيمم الصعيد فمسح بوجهه ويديه منه .
وقال النبي صلى الله عليه و سلم لعمران بن حصين : ( صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع ، فعلى جنب ) ؛ فقد أوجب الله فعل الصلاة في الوقت على أي حال أمكن ...
فهكذا الجهاد ، والولايات ، وسائر أمور الدين ؛ وذلك كله في قوله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم )، وفي قول النبي صلى الله عليه و سلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)..". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (28/388-389) .
وقال أيضا :
" وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا - بل وإماما - وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها." انتهى ، من "منهاج السنة النبوية" (5/113) .
وسئل شيخ الإسلام أيضا عن رجل متول ولايات ، لا يمكنه أن يرفع جميع ما فيها من الظلم والمكوس ، وإن كان هو يحب ذلك ، وإذا ترك هذه الولاية ، لم يرفع شيء من الظلم ، بل ربما ازداد ؟
فأجاب :
" الحمد لله، نعم إذا كان مجتهدا في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره كما قد ذكر: فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع ولا إثم عليه في ذلك؛ بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه. وقد يكون ذلك عليه واجبا إذا لم يقم به غيره قادرا عليه. فنشر العدل - بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان - فرض على الكفاية يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم." انتهى، من "مجموع الفتاوى" (30/357) .
والحاصل :
أن الموقع الذي أنت فيه هو موقع عظيم لإصلاح الجيل الناشئ فعليك أن تعض عليه بالنواجذ وتسعى في الإصلاح ما استطعت، مستجيبا لقوله تعالى:
( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) هود (88).
فما أمكنك إنكاره من المنكرات، وبيان الحق فيه – لا سيما ما يتعلق بالعقائد ، وأصول الدين -: وجب عليك إنكاره ، وبيان الحق فيه ، بحسب استطاعتك .
وما عجزت عنه ، لا سيما ما يتعلق بالمشكلات السياسية ، أو الشخصيات المعاصرة ، أو غيرها مما تعجز عنه ، أو يترتب على إنكاره مفسدة أكبر من مجرد الإنكار ، أو يعرضك إنكاره لما لا قبل لك به من البلاء : فلا يكلف الله نفسها إلا وسعها.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |