عنوان الفتوى : مسؤولية الحاكم ورب الأسرة عن إقامة شرع الله
أريد أن أعرف الأدلة من الكتاب والسنة وقول الصحابة والعلماء في : هل يحاسب الله الحاكم إن لم يفرض الشريعة على شعبه؟ وهل يحاسب الله الأب إن لم يفرض الشريعة على زوجته وأولاده؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن أهم الفروق بين نظام الحكم في الإسلام وفي غيره، أن شريعة الله تعالى في الإسلام هي مصدر الأحكام، والمصالح المرعية فيه لا تقتصر على أمور المعاش وحدود الحياة الدنيا، بل هي مجموع مصالح الدنيا والآخرة معا، وبذلك يتباين الإسلام مع غيره من نظم الحكم من حيث المبدأ والغاية، ولذلك فرَّق ابن خلدون في مقدمته بين الملك والخلافة، فقال: الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. اهـ.
وبهذا يتبين أن إقامة الشريعة ليست فقط من مهامِّ الخليفة أو الحاكم أو السلطان، بل هو مستخلف لذلك أصلا، فهذا واجبه الأول، وإن شئت فقل: الأوحد ! فكل ما ذكره أهل العلم من مهام الخليفة ومسئولياته إنما يدور على هذا، قال الماوردي في (الأحكام السلطانية): والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة... .
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين ... .
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم ... .
والرابع: إقامة الحدود... .
والخامس: تحصين الثغور ... .
والسادس: جهاد من عاند الإسلام ... .
والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع ... .
والثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال ... .
التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء ... .
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ... .
وهذا وإن كان مستحقا عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة، فهو من حقوق السياسة لكل مسترع، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". اهـ.
وبأدنى تأمل يظهر بذلك أن الخلافة إنما تقوم على حفظ الدين وسياسة الدنيا به، وهذا هو معنى إقامة شريعة الله في خلقه، وهذا هو الحق والعدل الذي أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل. وعلى ذلك يحاسب الحاكم ويسأل بين يدي الله تعالى، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] قال القرطبي: أي ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين. اهـ.
وقال ابن عاشور في (التحرير والتنوير): و (الحق): هو ما يقتضيه العدل الشرعي من معاملة الناس بعضهم بعضا، وتصرفاتهم في خاصتهم وعامتهم، ويتعين الحق بتعيين الشريعة. اهـ.
وقال الشنقيطي في (أضواء البيان): ومعلوم أن نبي الله داود لا يحكم بغير الحق، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله، ولكن الله تعالى يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام وينهاهم ليشرع لأممهم. ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر به داود، ونهاه أيضا عن مثل ذلك، في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} وقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} ... اهـ.
وأما الأب فقد أمر بمقتضى ذلك في أهل بيته، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] قال الدكتور عبد الكريم الخطيب في (التفسير القرآني للقرآن): ووقاية الإنسان نفسه من النار، هي في أن يستقيم على شريعة الله، ويقف عند حدود أوامرها ونواهيها، ففي ذلك سلامته من عذاب السعير، أما وقاية أهله، فتكون بنصحه لهم، وإرشادهم إذا ضلّوا، وتنبيههم إذا غفلوا. اهـ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسئول عن رعيته. رواه البخاري ومسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته. رواه النسائي في السنن الكبرى وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.
جاء في (التوضيح لشرح الجامع الصحيح) لابن الملقن: "كلكم راع" معناه: أنه يجب عليك أن تقيم فيهم الأحكام الشرعية. اهـ.
والله أعلم.