عنوان الفتوى : الحكمة من وظائف الحج والعمرة وترتيبها
أريد أن أعرف الحكمة في جميع أعمال العمرة والحج ، ما هي الحكمة المرادة بهم ، وما الحكمة في الترتيب الذي بنيت عليه؟ فإنني أريد القيام بالعمرة والحج ، ولكنني أريد الاستعداد أولاً قبل القيام بهذه الأعمال المباركة ؛ حتى أقوم بها بتركيز وفهم كاملين.
الحمد لله.
أولا:
قد أرشد الوحي إلى الحكم العامة من تشريع الحج والعمرة، ومن ذلك ما أجمله قول الله تعالى:
( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) الحج (27 – 30).
- ففي الحج والعمرة ومناسكهما إظهار لتوحيد الله تعالى، حيث يجتنب قول الزور ، ومنه الشرك بجميع مظاهره وصوره ودرجاته، ويكون إتمام الحج والعمرة لله وحده.
قال الله تعالى: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) البقرة (196).
وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، - وهو يصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم- (... فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ : لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ) رواه مسلم (1218).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأما الحج فشأن آخر لا يدركه إلا الحنفاء الذين ضربوا في المحبة بسهم، وشأنه أجل من أن تحيط به العبارة، وهو خاصة هذا الدين الحنيف، حتى قيل في قوله تعالى: ( حُنَفَاءَ لِلَّهِ ): أي: حجاجا.
وجعل الله بيته الحرام قياما للناس، فهو عمود العالم الذي عليه بناؤه، فلو ترك الناس كلهم الحج سنة، لخرت السماء على الأرض، هكذا قال ترجمان القرآن ابن عباس؛ فالبيت الحرام قيام العالم، فلا يزال قياما، ما زال هذا البيت محجوجا.
فالحج خاصة الحنيفية ... فإنه مؤسس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة " انتهى. "مفتاح دار السعادة" (2 / 869).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
" (الحج) كله دعوة إلى توحيده ، والاستقامة على دينه ، والثبات على ما بعث به رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام. فأعظم أهدافه توجيه الناس إلى توحيد الله ، والإخلاص له ، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما بعثه الله به من الحق والهدى في الحج وغيره.
فالتلبية أول ما يأتي به الحاج والمعتمر، يقول: ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ) يعلن توحيده لله وإخلاصه لله ، وأن الله سبحانه لا شريك له؛ وهكذا في طوافه ، يذكر الله ويعظمه ويعبده بالطواف وحده، ويسعى فيعبده بالسعي وحده ، دون كل ما سواه، وهكذا بالتحليق والتقصير، وهكذا بذبح الهدايا والضحايا، كل ذلك لله وحده، وهكذا بأذكاره التي يقولها في عرفات وفي مزدلفة وفي منى، كلها ذكر لله ، وتوحيد له ، ودعوة إلى الحق وإرشاد للعباد ، وأن الواجب عليهم أن يعبدوا الله وحده ، وأن يتكاتفوا في ذلك ويتعاونوا ، وأن يتواصوا بذلك " انتهى. "مجموع فتاوى ابن باز" (16 / 186 – 187).
- وفي الحج إقامة لذكر الله تعالى، ففي كل نسك من أنساكه هناك ذكر لله تعالى؛ كما أرشدت هذه الآية الكريمة ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ).
وقال الله تعالى: ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ،فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ) البقرة (198 – 199).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" بل هو -أي الذكر- روح الحج، ولبه ومقصوده، كما قال النبي: ( إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار: لإقامة ذكر الله )." انتهى. "مدارج السالكين" (4 / 2537)
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
" فالذكر من جملة المنافع المذكورة في قوله تعالى: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ). وعطفه على المنافع من باب عطف الخاص على العام. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ).
وشرع للناس كما جاء في كتاب الله ذكر الله عند الذبح، وشرع لهم ذكر الله عند رمي الجمار، فكل أنواع مناسك الحج ذكر لله، قولا وعملا. فالحج بأعماله وأقواله كله ذكر لله عز وجل " انتهى. "مجموع فتاوى ومقالات ابن باز" (16 / 185 - 186).
-وفي نسك الحج والعمرة تتحقق منافع دينية ودنيوية عدة للحجاج والمعتمرين ، ولأهل الحرم والمقيمين به؛ وإلى هذه الحكمة أشارت الآية ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
( أي: لينالوا ببيت الله منافع دينية، من العبادات الفاضلة، والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية، من التكسب، وحصول الأرباح الدنيوية، وكل هذا أمر مشاهد كل يعرفه " انتهى. "تفسير السعدي" (ص 536).
ومن هذه المنافع، اجتماع المسلمين من جميع الأقطار فيتعارفون ويستفيد بعضهم من بعض علما وتجارة وفائدة، ويزداد اتحادهم بتوحد حالهم ومظهرهم وهدفهم من رحلتهم هذه.
- ظهور المسلمين بهذا المظهر الموحد في الزمان والمكان والعمل والهيئة، فكلهم يقفون في المشاعر بزمن واحد، وعملهم واحد، وهيئتهم واحدة، إزار ورداء، وخضوع وذل بين يدي الله عز وجل.
- ما يحصل بالذبائح والهدايا الواجبة والمستحبة ، من تعظيم حرمات الله، والتنعم بها أكلاً وإهداء وصدقة للفقراء. ينظر : "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (24 / 241).
ثانيا:
أما الحكمة من ترتيب أفعال الحج والعمرة ، فالحكمة فيه ظاهرة:
فتكون البداية بالإحرام والتلبية ، وبهما يعلن المسلم دخوله في نسك الحج أو العمرة ، والتزامه بأحكامهما، والبدء بالطواف عند الوصول إلى مكة ، لأن البيت هو أعظم ما في الحرم ، والطواف من أهم أركان الحج والعمرة ، فيناسب البدء به دون غيره، وبعد الانتهاء من الأفعال المتعلقة بالبيت ، يناسب الانتقال إلى الأفعال الأخرى ، وهي السعي بين الصفا والمروة لأنها أقرب إلى البيت، ثم المبيت بمنى ، لأنها استعداد لأهم ركن في الحج ، وهو الوقوف بعرفة، ثم المبيت بمزدلفة ، لأنها طريق لباقي مناسك الحج بعد الإفاضة من عرفة ، فناسب أن يستريح فيها الحاج استعدادا لأعمال يوم النحر، ثم يكون رمي الجمرة ، لأنها بمنى تلي مزدلفة ، وناسب الحلق والنحر في هذا اليوم ، لأنه يوم العيد، ثم الطواف بالكعبة شكرا لله تعالى على إكمال أهم أعمال الحج ، ثم يليه المبيت بمنى -وهي المكان الذي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ذبح هدايا الحج فيه- فناسب أن يقيم الحاج فيه أيام التشريق ، لذكر الله تعالى ولنحر الهدايا وأكلها وتوزيعها .
عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ) وزاد في رواية ( وَذِكْرٍ لِلَّهِ ) رواه مسلم (1141).
ولهذا نهي الصوم فيها إلا لمن لم يجد الهدي.
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالاَ: ( لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ ) رواه البخاري (1997).
ثم يكون النزول إلى مكة لطواف الوداع ومغادرة الحاج مكة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأما أسرار ما في هذه العبادة من الإحرام، واجتناب العوائد، وكشف الرأس، ونزع الثياب المعتادة، والطواف، والوقوف بعرفة، ورمى الجمار، وسائر شعائر الحج؛ فمما شهدت بحسنه العقول السليمة والفطر المستقيمة، وعلمت بأن الذي شرع هذه لا حكمة فوق حكمته " انتهى. "مفتاح دار السعادة" (2 / 869).
وقد اجتهد بعض أهل العلم في تلمس الحكم التفصيلية لبعض أفعال الحج والعمرة .
فمما قيل في ذلك :
حكمة عدم لبس المخيط :
سُئلت "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" :
" لماذا حرم الله على الحجاج لبس المخيط، وما الحكمة من ذلك؟
فأجابت:
أولا: فرض الله الحج على من استطاع إليه سبيلا من المكلفين، مرة في العمر، وجعله ركنا من أركان الإسلام، لما هو معلوم من الدين بالضرورة، فعلى المسلم أن يؤدي ما فرضه الله عليه؛ إرضاء لله وامتثالا لأمره، رجاء ثوابه وخوف عقابه، مع الثقة بأن الله تعالى حكيم في تشريعه وجميع أفعاله، رحيم بعباده، فلا يشرع لهم إلا ما فيه مصلحتهم ، وما يعود عليهم بالنفع العميم في الدنيا والآخرة، فإلى ربنا الملك الحكيم سبحانه التشريع، وعلى العبد الامتثال مع التسليم.
ثانيا: لمشروعية التجرد من المخيط في الحج والعمرة حكم كثيرة ، منها: تذكر أحوال الناس يوم البعث، فإنهم يبعثون يوم القيامة حفاة عراة ثم يكسون، وفي تذكرة أحوال الآخرة عظة وعبرة . ومنها: إخضاع النفس، وإشعارها بوجوب التواضع، وتطهيرها من درن الكبرياء .
ومنها إشعار النفس بمبدأ التقارب والمساواة والتقشف، والبعد عن الترف الممقوت، ومواساة الفقراء والمساكين ... إلى غير ذلك من مقاصد الحج على الكيفية التي شرعها الله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن قعود ، عبد الله بن غديان، عبد الرزاق عفيفي، عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى. "فتاوى اللجنة الدائمة" (11 / 179 – 180).
حكمة الطواف وتقبيل الحجر الأسود:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" الحكمة من الطواف بينها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( إنما جعل الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ) : فالطائف الذي يدور على بيت الله تعالى يقوم بقلبه من تعظيم الله تعالى ، ما يجعله ذاكرًا الله تعالى، وتكون حركاته بالمشي والتقبيل، واستلام الحجر، والركن اليماني، والإشارة إلى الحجر ذكرًا لله تعالى؛ لأنها من عبادته، وكل العبادات ذكر لله تعالى بالمعنى العام؛ وأما ما ينطق به بلسانه من التكبير، والذكر، والدعاء فظاهر أنه من ذكر الله تعالى.
وأما تقبيل الحجر، فإنه عبادة ؛ حيث يقبل الإنسان حجرًا لا علاقة له به ، سوى التعبد لله تعالى بتعظيمه ، واتباع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك ، كما ثبت أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال حين قبل الحجر: ( إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك ).
وأما ما يظنه بعض الجهال من أن المقصود بذلك التبرك به فإنه لا أصل له؛ فيكون باطلًا " انتهى. "مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين" (2 / 318 - 319).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وقال المهلب: ... وإنما شرع تقبيله – أي الحجر الأسود- اختبارا ، ليُعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع ، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم ... وفي قول عمر هذا : التسليم للشارع في أمور الدين ، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها .
وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ، ولو لم يعلم الحكمة فيه " انتهى. "فتح الباري" (3 / 463).
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَجَرِ: ( وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنْ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ ) رواه الترمذي (961) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (1 / 493).
أما السعي بين الصفا والمروة:
فقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" أما حكمة السعي: فقد جاء النص الصحيح ببيانها، وذلك هو ما رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة ترك إبراهيم هاجر، وإسماعيل في مكة، وأنه وضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، وفي الحديث الصحيح المذكور: ( وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات ) قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فذلك سعي الناس بينهما ) الحديث.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ( فذلك سعي الناس بينهما ) ، فيه الإشارة الكافية إلى حكمة السعي بين الصفا والمروة؛ لأن هاجر سعت بينهما السعي المذكور، وهي في أشد حاجة، وأعظم فاقة إلى ربها، لأن ثمرة كبدها، وهو ولدها إسماعيل تنظره يتلوى من العطش في بلد لا ماء فيه، ولا أنيس، وهي أيضا في جوع، وعطش في غاية الاضطرار إلى خالقها جل وعلا، وهي من شدة الكرب تصعد على هذا الجبل، فإذا لم تر شيئا جرت إلى الثاني فصعدت عليه لترى أحدا، فأمر الناس بالسعي بين الصفا والمروة ليشعروا بأن حاجتهم وفقرهم إلى خالقهم ورازقهم ، كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الوقت الضيق، والكرب العظيم إلى خالقها ورازقها، وليتذكروا أن من كان يطيع الله كإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: لا يضيعه، ولا يخيب دعاءه .
وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليها حديث صحيح " انتهى. "أضواء البيان" (5 / 342 - 343).
حكمة المبيت بمنى:
سُئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
" ما الحكمة من رمي الجمرات والمبيت في منى ثلاثة أيام ، نأمل من فضيلتكم إيضاح الحكمة من ذلك ولكم الشكر؟
فأجاب: على المسلم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع الشرع، وإن لم يعرف الحكمة، فالله أمرنا أن نتبع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأن نتبع كتابه، قال تعالى: ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )، وقال سبحانه: ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ )، وقال سبحانه: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )، وقال عز وجل: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ).
فإن عرفت الحكمة فالحمد لله، وإن لم تعرف فلا يضر ذلك .
وكل ما شرعه الله هو لحكمة، وكل ما نهى عنه هو لحكمة، سواء علمناها أو جهلناها .
فرمي الجمار : واضح بأنه إرغام للشيطان ، وطاعة لله عز وجل .
والمبيت في منى الله أعلم بحكمته سبحانه وتعالى ، ولعل الحكمة في ذلك تسهيل الرمي إذا بات في منى ليشتغل بذكر الله، ويستعد للرمي في وقته ، لو شاء الذهاب في الوقت المحدد للرمي حسبما يتناسب معه، فلربما تأخر عن الرمي وربما فاته، وربما شغل بشيء لو لم يبت بمنى. والله جل وعلا أعلم بالحكمة سبحانه وتعالى في ذلك " انتهى. "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (380 - 382).
حكمة رمي الجمار:
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" اعلم أنه لا شك في أن حكمة الرمي في الجملة : هي طاعة الله فيما أمر به ، وذكره بامتثال أمره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم .
قال أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا عبيد الله بن أبي زياد، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ) ...
وعبيد الله بن أبي زياد المذكور، هو القداح أبو الحصين المكي، وقد وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وحديثه هذا معناه صحيح بلا شك، ويشهد لصحة معناه قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ) ، لأنه يدخل في الذكر المأمور به: رمي الجمار، بدليل قوله بعده: ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) ، وذلك يدل على أن الرمي شرع لإقامة ذكر الله، كما هو واضح .
ولكن هذه الحكمة إجمالية، وقد روى البيهقي رحمه الله في سننه عن ابن عباس مرفوعا قال: لما أتى إبراهيم خليل الله عليه السلام المناسك، عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الشيطانَ ترجمون ، وملةَ أبيكم تتبعون. انتهى بلفظه من السنن الكبرى للبيهقي .
وقد روى هذا الحديث الحاكم في المستدرك مرفوعا، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .
وعلى هذا الذي ذكره البيهقي، فذكر الله الذي يشرع الرمي لإقامته، هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان، ورميه، وعدم الانقياد إليه، والله يقول: ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ )، فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في قوله: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) وقوله منكرا على من والاه: ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ )، ومعلوم أن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة " انتهى. " أضواء البيان" (5 / 340 - 341).
هذا بعض ما وقفنا عليه ، مما قاله أهل العلم في حكم وظائف الحج ، والغالب عليها أنها من الأمور الاجتهادية ، وليس في أكثرها نص على أن تلك هي الحكمة المرادة من تشريع تفاصيل هذه العبادات الجليلة .
ولذلك ، فإن طائفة من أهل العلم يرون : أن وظائف الحج من التشريعات غير المعقولة المعنى، وشرعت على هذا النحو اختبارا وامتحانا لمدى طاعة العباد لربهم، والله يختبر عباده بما شاء.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" اعلم أن أصل العبادة معقول، وهو ذل العبد لمولاه بطاعته، فإن الصلاة فيها من التواضع والذل ما يفهم منه التعبد.
وفي الزكاة إرفاق ومواساة يفهم معناه.
وفي الصوم كسر شهوة النفس لتنقاد طائعة إلى مخدومها.
وفي تشريف البيت ونصبه مقصدا ، وجعل له ما حواليها حرما تفخيما له، وإقبال الخلق شعثا غبرا كإقبال العبد إلى مولاه ذليلا معتذرا : أمر مفهوم .
والنفس تأنس من التعبد بما تفهمه، فيكون ميل الطبع إليه معينا على فعله، وباعثا؛ فوظفت لها وظائف لا تفهمها، ليتم انقيادها ، كالسعي ، والرمي، فإنه لاحظ في ذلك للنفس، ولا أنس فيه للطبع، ولا يهتدي العقل إلى معناه، فلا يكون الباعث إلى امتثال الأمر فيه ، سوى مجرد الأمر والانقياد المحض .
وبهذا الإيضاح تعرف أسرار العبادات الغامضة " انتهى. "مثير العزم الساكن" (ص 285 - 286).
فالحاصل؛ أخي الكريم!
أن المشروع للعبد أثناء تأدية الحج والعمرة : أن يستذكر الحاج والمعتمر ما يشرع فعله ، فيفعله. ومالا يشرع ، فيجتنبه ، وأن يجتهد في تدبر الأذكار التي رتبها الشرع في كل فعل من أفعال الحج والعمرة ، فهي من مقاصد الحج العظمى كما سبق بيانه، فلا يترك الحاج والمعتمر زمنا في حجه وعمرته يضيع عليه سدى ، بل يجتهد في ذكر الله تعالى ، قدر طاقته ، ويعظم شعائر ربه حق تعظيمها ، قال تعالى : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) الحج/32 .
ولمعرفة صفة الحج والعمرة وما يشرع فيهما من أذكار راجع الفتاوى الآتية: (31822)، (31819)، (34744)، (47732)، (10508)، (109246)، (220989).
والله أعلم.