عنوان الفتوى : كيف يكون الإنسان مخيرا وقد خلق الله ناسا للجنة وناسا للنار ؟
أريد أن اتأكد من صحة كلام قرأته ، هل صحيح أن الله عندما خلق الإنسان مسح علي ظهره ، وقال : هؤلاء أهل النار ولا أبالي ، وهؤلاء أهل الجنة ولا أبالي؟ كيف وربنا سبحانه وتعالي غفور رحيم يحب عباده ؟ و ما تفسير الآية : " إن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " ولكن الإنسان مخير! ، أرجو عدم إساءة فهمي.
الحمد لله.
أولا:
الحديث المشار إليه هو ما رواه أحمد (311) ، وأبو داود (4703) ، والترمذي (3075) : " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ) الْآيَةَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً ، فَقَالَ : خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ . ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً ، فَقَالَ : خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ ) .
فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ ، اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ . وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ ، اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ ، فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ) .
قال الإمام الترمذي رحمه الله : "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بَيْنَ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَبَيْنَ عُمَرَ رَجُلًا مجهولا " .
انظر "السنن" ، ط عصام هادي .
وقال ابن عبد البر رحمه الله : " لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث، وهو حديث منقطع لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب، بينهما نعيم بن ربيعة، هذا إن صح لأن الذي رواه عن زيد بن أنيسة، فذكر فيه نعيم بن ربيعة، ليس هو أحفظ من مالك، ولا ممن يحتج به إذا خالفه مالك .
ومع ذلك فإن نعيم بن ربيعة، ومسلم بن يسار ، جميعا : مجهولان ، غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث .
وليس هو مسلم بن يسار البصري العابد، وإنما هو رجل مدني مجهول " .
انتهى من "الاستذكار" (26/90) .
وانظر : "مختصر تلخيص الذهبي" لابن الملقن ، (1/59-62) حاشية المحقق .
لكن رجح الإمام الدارقطني ، رواية غير مالك ، بزيادة نعيم بن ربيعة ، ووصل الحديث ، بذكر الرجل المجهول – نعيم هذا - . انظر : "العلل" (2/222) ، برقم (235) .
وأصل الحديث ثابت من وجوه أخرى . قال ابن عبد البر رحمه الله ، في "التمهيد" (6/6) : " وَلَكِنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ثَابِتَةٍ ، يَطُولُ ذِكْرُهَا ، مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَغَيْرِهِ جَمَاعَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ ". انتهى .
وصححه كذلك ، بشواهده : شعيب الأرناؤوط وغيره .
لكن نبه الشيخ الألباني رحمه الله ، إلى أن الوجوه الصحيحة في الحديث لم يذكر معها آية الأعراف .
قال في "السلسلة الضعيفة" (3071) : " وفي أخذ الذرية من صلب آدم أحاديث أخرى صحيحة أخصر من هذا، وقد خرجت بعضها في "الصحيحة" (48-50) ، وليس في شيء منها مسح الظهر إلا في حديث لأبي هريرة مخرج في "ظلال الجنة" (204-205) ، وفي كلها لم تذكر الآية الكريمة." انتهى .
ثانيا :
وهذا الحديث لا يعارض رحمة الله ومغفرته، ولا ينافي عدله سبحانه، وليس فيه جبر لأحد على شيء، وإنما هذا قضاؤه وقدره السابق، فقد علم الله تعالى جميع ما يكون، وكتبه، ولا يخرج شيء عما قدّره .
لكن العبد لا يعلم ما الذي كُتب، وله إرادة وقدرة يفعل بها، فإن شاء آمن وإن شاء كفر، وإن شاء أطاع وإن شاء عصى، لا يشعر أحد أن شيئا يجبره على شيء، وهذا معنى الاختيار، فليس له أن يقول: كتب علي الهدى، أو كتب علي الضلال، ولا عذر له إن اتكل على مكتوب لا يدري عنه شيئا .
لكن الله الخالق يعلم ذلك ، ولا شك ؛ وكيف يظن أن الله تعالى يخلق عبده ولا يعلم كيف سيكون عمله، وإلى أين ينتهي مصيره!
ولهذا لما سأل الصحابة رضي الله عنهم: "أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ "
أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
(اعْمَلُوا ؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ؛ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى الْآيَةَ) رواه البخاري (4949) ، ومسلم (2647).
فما على الإنسان في هذه الحياة إلا أن يجدّ ويعمل، دون بحث ونظر: هل كتب علي كذا أم لا؟ فإنه لن يصل إلى ذلك .
لكن معرفته أن كل شيء بقدر يطمئن قلبه عند حدوث المصيبة، فلا يأسى، ولا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، وهذا معنى قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) الحديد/ 22، 23 .
ثالثا:
الله عز وجل يضل من يشاء ويهدي من يشاء، كما قال سبحانه: (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إبراهيم/4، وقال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل/93، وقال: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الأعراف/178.
وهداية الله نوعان: عامة وخاصة .
فأما العامة : فهي ثابتة في حق جميع الأمم ، حتى الأمم الكافرة ، وهي هداية الدلالة والإرشاد والبيان للحق، كما قال سبحانه: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فصلت/17. أي بينا لهم طريق الحق. وقال عز وجل: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان/3.
وأما الخاصة: فإنها لعباده المؤمنين، وهي هداية التوفيق والإعانة والتسديد، ومن ذلك قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) الأنعام/90، وقوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الشورى/52، وقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت/69، وقال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الحجرات/7، 8.
وأما الإضلال: فهو ترك العبد وشأنه، وعدم إمداده بأسباب العون والتوفيق.
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: " يهدي من يشاء ، ويعصم ويعافي: فضلا.
ويضل من يشاء ، ويخذل ويبتلي : عدلا .
وكلهم يتقلبون في مشيئته ، بين فضله وعدله " .
وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم : (256427) ، ورقم : (220690) .
وانظر في بيان أن الإنسان مسير ومخير: جواب السؤال رقم : (34898) ، ورقم : (20806) .
والنصيحة أن تجتهد في تحصيل عمل أهل السعادة، وألا تخوض بعقلك في أمر القدر، فإنه سر الله في خلقه، فاجتهد فيما أنت مكلف به ، وهو الإيمان والعمل الصالح ، ودع ما لم تكلف به ، وهو معرفة سر الله في القضاء والقدر .
واسأل الله الهداية والعون عليها، والثبات على الإيمان حتى تلقاه.
والله أعلم.