عنوان الفتوى : الإنسان له إرادة واختيار والله يعلم هل هو شقي أو سعيد .

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

لقد كنت في حيرة من أمري بشأن هذه المسألة منذ بعض الوقت، وقد سألت بعض الناس ولكني لا أزال غير مقتنع. أعي أن الله قد أعطانا نحن والجن إرادة حرة أشعر بها فعلًا. ولكن هناك الكثير من الأحاديث في البخاري تقول إن الله قد كتب بالفعل ما إذا كان المرء تقيًا أو فاسقًا، غنيًا أو فقيرًا، وغير ذلك. فكل شيء سبق تقديره في الأساس. فقد روى أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَي رَبِّ نُطْفَةٌ، أَي رَبِّ عَلَقَةٌ، أي رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ أي رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ". صحيح البخاري حديث رقم6595. وفي سورة النحل، الآية 93 يقول الله تعالى: "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون" . فالآيات والأحاديث المذكورة أعلاه وغيرها ، تشير إلى أن أعمالنا الصالحة والسيئة محددة مسبقًا. وأنا أعلم أيضًا أننا تحت اختبارٍ دائم كما يقول الله في الآيات الأولى من سورة العنكبوت وغيرها من الآيات مع الحرية في اختيار فعل الأعمال الصالحة أو السيئة. ولكن هناك الكثير من الآيات والأحاديث تبين أن الشيطان مسئولٌ عن إضلالنا من خلال مكائده وقدراته، فهو يعرفنا من الداخل والخارج ولكننا لا نعرفه على الإطلاق.

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله

أولا:

المكلف له قدرة وإرادة واختيار، سواء كان من الإنسان أو الجن، وبهذه القدرة والإرادة يؤمن أو يكفر، ويطيع أو يعصي، كما قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) الكهف/29

وقال: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان/2، 3

ولما كان المكلف قادرا مختارا، فإنه يجازى على أعماله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وما ربك بظلام للعبيد (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة/7، 8

ولو كان الإنسان مجبورا على أعماله ، لكان تعذيبه على هذه الأعمال ظلما له، والله تعالى منزه عن ذلك.

وكل إنسان يشعر بهذا الاختيار ويحس به، فلا يجبره أحد على الصلاة أو إتيان المسجد، كما لا يجبره أحد على الحرام أو إتيان محله.

ثانيا:

لما كان الله تعالى هو الخالق، فلا عجب أن يعلم ما سيفعله عبده، وما سيكون عليه مصيره، من سعادة أو شقاوة، فقد علم ذلك سبحانه، وكتبه عنده في اللوح المحفوظ، ويأمر الملك أن يكتب ذلك والجنين في بطن أمه .

لكن هذا العلم السابق مغيّب عن الإنسان، ولا يشعر به، ولا يجبره على فعل شيء أو تركه، فما على العبد إلا أن يعمل، وسيجازى على عمله، كطالب أعطي كتابا ليدرسه، ويختبر فيه، فإن اجتهد نجح، وإن أهمل رسب، وإن كان أستاذه يعلم النتيجة المتوقعة، لعلمه بالطالب وخبرته بحاله .

وهذا ـ فقط ـ مثل ، لتقريب الأمر إلى الأفهام ؛ ولله المثل الأعلى، فالله خالق الإنسان ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وحاله من عبده الذي خلقه ، فوق ذلك وأجل : ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الملك/14 .

ثالثا:

الله عز وجل يضل من يشاء ويهدي من يشاء، كما قال سبحانه: (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إبراهيم/4، وقال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل/93، وقال: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الأعراف/178.

وهداية الله نوعان: عامة وخاصة، فأما العامة فهي هداية الدلالة والإرشاد والبيان للحق، كما قال سبحانه: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فصلت/17. أي بينا لهم طريق الحق. وقال عز وجل: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان/3.

وأما الخاصة: فإنها لعباده المؤمنين، وهي هداية التوفيق والإعانة والتسديد، ومن ذلك قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) الأنعام/90، وقوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الشورى/52، وقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت/69، وقال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الحجرات/7، 8.

وأما الإضلال: فهو ترك العبد وشأنه، وعدم إمداده بأسباب العون والتوفيق.

قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله).

فالتوفيق عند أهل السنة والجماعة : هو إمداد الله العبد بعونه وتسديده وتيسير الأمر له.

والخذلان: ترك العبد وشأنه دون إمداد وإعانة.

ولا يقال: لم أمدّ هذا ولم يمدّ هذا؟

فالتوفيق فضل، والخذلان عدل، وهو سبحانه (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء/23 ؛ " لَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ بَلْ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" انتهى من من فتاوى شيخ الإسلام (/79) .

وهو سبحانه أعلم بمن يستحق الفضل ، ومن لا يستحقه، كما قال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) القصص/56، وقال: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الأنعام/53.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في بيان هذه المسألة المهمة:

" إذا كان الأمر راجعا إلى مشيئة الله تبارك وتعالى ، وأن الأمر كله بيده ، فما طريق الإنسان إذن ، وما حيلة الإنسان إذا كان الله تعالى قد قَدَّر عليه أن يضل ولا يهتدي ؟

فنقول : الجواب عن ذلك أن الله تبارك وتعالى إنما يهدي من كان أهلاً للهداية ، ويضل من كان أهلاً للضلالة ، ويقول الله تبارك وتعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف/5 ، ويقول تعالى : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) المائدة/13 .

فبين الله تبارك وتعالى أن أسباب إضلاله لمن ضل إنما هو بسبب من العبد نفسه ، والعبد لا يدرى ما قَدَّر الله تعالى له ، لأنه لا يعلم بالقدر إلا بعد وقوع المقدور . فهو لا يدري هل قدر الله له أن يكون ضالا أم أن يكون مهتديا ؟

فما باله يسلك طريق الضلال ، ثم يحتج بأن الله تعالى قد أراد له ذلك !

أفلا يجدر به أن يسلك طريق الهداية ثم يقول : إن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم" انتهى من رسالة في القضاء والقدر، ص14

وانظر تتمة كلامه في جواب السؤال رقم (220690).

فالحاصل أن:

1-للمكلف حرية واختيار، فيطيع أو يعصي باختياره، وسيجازى على ذلك.

2-الله يعلم ما سيؤول إليه مصير عبده، وقد كتب ذلك عنده.

3-الله يمد عبده المؤمن ويعينه، وهو أعلم بمن يستحق الإمداد والعون.

4-الله يخذل من يشاء، ولا يمده ولا يعينه. وإمداده فضل، وخذلانه عدل.

5-العبد الموفق من يسأل الله الإمداد والإعانة؛ إذ لا غنى له عن فضل الله طرفة عين، ولهذا قال تعالى في سورة الفاتحة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة/5

فمدار الدين على هذين الأمرين: العبادة والاستعانة.

6-العبد المؤمن يقر بفضل الله تعالى، ويعرف نعمته عليه، وينسب كل خير وتوفيق إليه، كما حكى الله عن أهل الجنة أنهم يقولون: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الأعراف/43

وتأمل كيف جمعت الآية الكريمة بين بيان فضل الله وهدايته، وكون الجنة تورث بالعمل.

فدع عنك الوساوس، وانشغل بما ينفعك، فإن هذه الدار دار العمل والزرع، وغدا دار الجزاء والحصاد، وإن أهل الجنة يتحسرون على ساعة لم يذكروا الله فيها، فاجتهد في تحصيل الفضائل، وأداء الواجبات، والمنافسة في الدرجات العلا، وسل الله القبول، والتوفيق، والإعانة.

وأما الشيطان فإنه يحاول الإضلال، ولا سبيل له على عباد الله المخلصين، كما قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) النحل/98- 100

ويوم القيامة يتبرأ الشيطان ممن تعبه، ويبين لهم أنه لم يكن له سلطان عليهم، إلا أنه دعاهم فاستجابوا له.

قال تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) إبراهيم/22

نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد والرشاد.

والله أعلم.