عنوان الفتوى : ذم الإكثار من الأسئلة ومواضع كراهتها
استغرب أحد معارفي عندما علم أنني أسأل عن أشياء مثل حكم مشاهدة المحقق كونون و
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المسلم مأمور بالسؤال عن الوقائع التي يجهل حكمها قبل أن يقدم عليها، وسؤال المسلم عما يحتاجه من الأحكام ليس بمذموم، وليس بتنطع، وراجع في هذا الفتوى رقم: 250945.
لكن قد جاءت نصوص الشرع بالنهي عن أنواع من المسألة، وقد استقرأ الإمام الشاطبي أنواع الأسئلة المذمومة في الشرع، ونسوق كلامه لنفاسته، ولحاجة السائلين إلى تمييز الأسئلة المذمومة من الأسئلة المشروعة، قال الشاطبي رحمه الله: الإكثار من الأسئلة مذموم، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح، من ذلك قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ـ الآية: {المائدة: 101} وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قرأ: ولله على الناس حج البيت ـ الآية {آل عمران: 97} فقال رجل: يا رسول الله! أكل عام؟ فأعرض ثم قال: يا رسول الله! أكل عام ثلاثا؟ وفي كل ذلك يعرض، وقال في الرابعة: والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ولو لم تقوموا بها لكفرتم، فذروني ما تركتكم ـ وفي مثل هذا نزلت: لا تسألوا عن أشياء ـ الآية {المائدة: 101} وكره عليه الصلاة والسلام المسائل وعابها، ونهى عن كثرة السؤال، وكان عليه الصلاة والسلام يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم، وقال: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء، فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم، لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها ـ وقال ابن عباس: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم، كلهن في القرآن: ويسألونك عن المحيض {البقرة: 222} ويسألونك عن اليتامى {البقرة: 220} يسألونك عن الشهر الحرام { البقرة: 217} ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم، يعني أن هذا كان الغالب عليهم، وفي الحديث: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليه، فحرم عليهم من أجل مسألته، وقال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. اهـ.
ثم قال رحمه الله: لكراهية السؤال مواضع، نذكر منها عشرة مواضع:
أحدها: السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة: من أبي؟ وروي في التفسير أنه عليه الصلاة والسلام سئل: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: يسألونك عن الأهلة ـ الآية إلى قوله: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها {البقرة: 189} فإنما أجيب بما فيه من منافع الدين.
والثاني: أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته، كما سأل الرجل عن الحج: أكل عام؟ مع أن قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت { آل عمران: 97 } قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه، ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة { البقرة: 67}.
والثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا -والله أعلم- خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله: ذروني ما تركتكم ـ وقوله: وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها.
والرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في النهي عن الأغلوطات.
والخامس: أن يسأل عن علة الحكم، وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.
والسادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وعلى ذلك يدل قوله تعالى: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين {ص: 86} ولما سأل الرجل: يا صاحب الحوض؛ هل ترد حوضك السباع؟ قال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض؛ لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا ـ الحديث.
والسابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي، قيل لمالك بن أنس: الرجل يكون عالما بالسنة، أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبلت منه وإلا سكت.
والثامن: السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه ـ الآية {آل عمران: 7} وعن عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات، أسرع التنقل، ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة.
والتاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين، فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب أن يطلخ بها لساني.
والعاشر: سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام، وفي القرآن في ذم نحو هذا: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام { البقرة: 204} وقال: بل هم قوم خصمون { الزخرف: 58} وفي الحديث: أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.
هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها واحدا، بل فيها ما تشتد كراهيته ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها ما يكون محل اجتهاد. اهـ باختصار من الموافقات.
وهناك نوع من السؤال المذموم يقع فيه بعض السائلين نبه عليه الإمام ابن رجب بقوله: هاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه، كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هما ريحانتاي من الدنيا ـ وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها، فقال: إن كان بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته، ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه، فيضربها، فلا يفعل، وسئل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن رجل يشتري بقلا، ويشترط الخوصة، يعني: التي تربط بها جرزة البقل، فقال أحمد: أيش هذه المسائل؟! قيل له: إنه إبراهيم بن أبي نعيم، فقال أحمد: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم، فنعم هذا يشبه ذاك، وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا، وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع، فإنه أمر من يشتري له سمنا، فجاء به على ورقة، فأمر برد الورقة إلى البائع، وكان الإمام أحمد لا يستمد من محابر أصحابه، وإنما يخرج معه محبرة يستمد منها، واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته، فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم، واستأذن رجل آخر في ذلك فتبسم، وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا، وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة، ويقدم على الشبهات من غير توقف. اهـ.
وأما بخصوص السؤال عن حكم مشاهدة المحقق كونون: فلا يكون مذموما لمن احتاج إلى السؤال وكان لا علم له بالحكم أصلا وهو عازم على العمل بما سيعلمه، وإنما يكون السؤال مذموما إن كان السائل عالما بالحكم أصلا ـ كمن يعلم حكم مشاهدة الأفلام المصورة -مثلا- ثم يسأل عن الفلم بخصوصه ـ أو كان غير عازم على العمل بما سيعلمه، وراجع للفائدة حول الأسئلة المذمومة الفتوى رقم: 200003.
والله أعلم.