عنوان الفتوى : عورة الأمة وتفسير قوله تعالى: ذلك أدنى أن يعرفن

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

أريد أن أسأل عن أمر أشكل عليّ فهمه، وهو عن عورة الأمة: هل هي من السرة إلى الركبة فقط؟ وهل يعني ذلك أن الأمة تستطيع المشي في الطرقات كاشفة عن رأسها، وصدرها؟ وأيضًا في قوله تعالى:" ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين" ذكر المفسرون أن الجلباب فرض للتمييز بين الحرة والأمة، فلا يؤذيها الفساق، فهل يعني ذلك أن إيذاء الأمة، والتعرض لها (ولو كانت غير مؤمنة) جائز ؟ ذلك أن حجة الفساق كانت أنهم يحسبون المرأة حينما يتعرضون لها أمة، وقالوا إنما نفعل ذلك بالإماء، فنزلت الآيات للتفريق بين الحرة والأمة، فهل يفهم من ذلك أن التعرض للإماء بالأذى يجوز؟ ولو فرضنا أن هذا التفسير فاسد، كما قال ابن حزم -الذي عارض أن تكون عورة الأمة كالرجل- فممن تعرف النساء المؤمنات؟ وبماذا نفسر تصرف عمر -رضي الله عنه- عندما كان يكشف الحجاب عن رأس الأمة لئلا تتشبه بالحرائر؟ ألا يخالف تصرفه- رضي الله عنه- عموم قوله تعالى في نفس آية الجلباب: "ونساء المؤمنين" حيث يمكن أن تكون الأمة مؤمنة، أو زوجة عبد مؤمن؟ أرجو الإجابة بالتفصيل؛ لأني تلقيت الموضوع على أنه شبهة - جزاكم الله خيرًا -.

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأمة عورتها ما بين السرة إلى الركبة، وذهب الحنفية إلى أن عورتها مثل عورة الحرة بالنسبة لمحارمها، وذهب بعض الحنابلة، وابن حزم، إلى أن عورتها كعورة الحرة.

قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: سوى بعض أصحابنا بين الحرة والأمة؛ لقوله تعالى: ولا يبدين زينتهن {النور: 31} الآية، ولأن العلة في تحريم النظر الخوف من الفتنة، والفتنة المخوفة تستوي فيها الحرة والأمة، فإن الحرية حكم لا يؤثر في الأمر الطبيعي. انتهى.

ولكن الراجح هو التفريق بين مسألة عورة الأمة، ومسألة جواز النظر إليها.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في التلخيص الحبير: اختار النووي أن الأمة كالحرة في تحريم النظر إليها، لكن يعكر عليه ما في الصحيحين في قصة صفية، فقلنا: إن حجبها فهي زوجته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد ـ كذا اعترضه ابن الرفعة، وتعقب بأنه يدل على أن الأمة تخالف الحرة فيما تبديه أكثر مما تبديه الحرة، وليس فيه دلالة على جواز النظر إليها مطلقًا. انتهى.

وزاد العلامة العثيمين -رحمه الله- الأمرَ إيضاحًا، فقال في شرحه الممتع على زاد المستقنع: الأَمَةُ -ولو بالغة- وهي المملوكة، فعورتها من السُّرَّة إلى الرُّكبة، فلو صلَّت الأَمَةُ مكشوفة البدن ما عدا ما بين السُّرَّة والرُّكبة، فصلاتها صحيحة؛ لأنَّها سترت ما يجب عليها سَتْرُه في الصَّلاة.

وأما في باب النَّظر: فقد ذكر الفقهاءُ -رحمهم الله تعالى- أن عورة الأَمَة أيضًا ما بين السُّرَّة والرُّكبة، ولكن شيخ الإسلام -رحمه الله- في باب النَّظر عارض هذه المسألة، كما عارضها ابن حزم في باب النَّظر، وفي باب الصَّلاة، وقال: إن الأمة كالحُرَّة؛ لأن الطَّبيعة واحدة، والخِلْقَة واحدة، والرِّقُّ وصف عارض خارج عن حقيقتها وماهيَّتها، ولا دليلَ على التَّفريق بينها وبين الحُرَّة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنَّ الإماء في عهد الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وإن كُنَّ لا يحتجبن كالحرائر؛ لأن الفتنة بهنَّ أقلُّ، فَهُنَّ يُشبهنَ القواعدَ مـن النِّساء اللاتي لا يرجون نكاحًا؛ قـال تعالى فيهن:{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} (النور: من الآية60)، يقول: وأما الإماء التركيَّات الحِسَان الوجوه، فهذا لا يمكن أبداً أن يَكُنَّ كالإماء في عهد الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، ويجب عليها أن تستر كلَّ بدنها عن النَّظر، في باب النَّظر.

وعلَّل ذلك بتعليل جيِّدٍ مقبولٍ، فقال: إن المقصود من الحجاب هو ستر ما يُخاف منه الفِتنة بخلاف الصَّلاة؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يستتر في الصَّلاة، ولو كان خاليًا في مكان لا يطَّلع عليه إلا الله، لكن في باب النَّظر إنما يجب التَّستر حيث ينظر الناس، قال: فالعِلَّة في هذا غير العِلَّة في ذاك، فالعِلَّة في النَّظر: خوف الفتنة، ولا فرق في هذا بين النِّساء الحرائر والنِّساء الإماء، وقوله صحيح بلا شكٍّ، وهو الذي يجب المصير إليه. انتهى.

والترخيص للإماء في عدم وجوب الحجاب، كان بسبب حاجتهن للخدمة، ولكن إذا أدى ذلك لخوف الفتنة، فإنه يجب غض البصر عنهن، وإبعادهن عن الريبة.

ولا يفهم من قوله تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ {الأحزاب:59} أنه يجوز التعرض للإيماء بالأذى.

  وقد أوضح هذه المسألة العلامة الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان فقال: لأن إدناءهن عليهن من جلابيبهن، يشعر بأنهن حرائر، فهو أدنى وأقرب لأن يعرفن، أي يعلم أنهن حرائر، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء، وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية، وهو واضح، وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز، ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، في قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا {الأحزاب: 60-61}.

ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض، قوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ {الأحزاب: 32}، وذلك معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى:

حافظ للفرج راض بالتقى    * ليس ممن قلبه فيه مرض

وفي الجملة: فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليهابهن الفساق، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب. انتهى.

وأما فعل عمر -رضي الله عنه- من أنه رأى أمة سترت وجهها، فمنعها من ذلك وقال: أتتشبهين بالحرائر. فقد رواه البيهقي، وقال: والآثار في ذلك عن عمر- رضي الله عنه- في ذلك صحيحة، وأنها تدل على أن رأس الأمة، ورقبتها، وما يظهر منها في حال المهنة ليس بعورة. انتهى.

وفعله ليس مخالفًا لقوله تعالى: قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ {الأحزاب:59}. وذلك أن المقصود بنساء المؤمنين هن الحرائر.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى: قوله: {قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} الآية: دليل على أن الحجاب إنما أمر به الحرائر دون الإماء؛ لأنه خص أزواجه، وبناته، ولم يقل: وما ملكت يمينك، وإمائك، وإماء أزواجك، وبناتك، ثم قال: {ونساء المؤمنين} والإماء لم يدخلن في نساء المؤمنين، كما لم يدخل في قوله: {نسائهن} ما ملكت أيمانهن حتى عطف عليه في آيتي النور والأحزاب. انتهى.

ويعني- رحمه الله- بآيتي النور، والأحزاب قوله تعالى في النور: أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ {النور:31}، وقوله تعالى في الأحزاب: وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ {الأحزاب:55} حيث فرق بين نسائهن وما ملكت أيمانهن، فدل على أن نساءهن هن الحرائر فقط.

وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتاوى وما أحيل عليه فيها: 46973، 77247، 227926.

والله أعلم.