عنوان الفتوى : شبهات في مسالة الحجاب والإجابة عنها
فضيلة الشيخ أثابكم الله: لدي بعض الشبهات في مسألة الحجاب وأريد إجابات عنها رفع الله قدركم:1ـ هل يصح أن تكون علة نزول الحجاب وفرضه هي حتى يتم التفريق ومعرفة الحرة من الأمة؟ ويستدل لهذا بقصة صفية ـ رضي الله عنها ـ أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: إن تحتجب فهي زوجة، وإن لم تحتجب فأمة؟.2ـ لماذا يتم التفريق بين الأمة والحرة في الحجاب من الأساس؟ قرأت من الأجوبة أن هذا وجد حتى يفرق الناس بين الأمة والحرة فلا يؤذون الحرة، لأن كفار قريش كانوا لا يتعرضون للحرائر ولا يزنون بهن وأنهم إنما يقعون على الإماء فنزل الحجاب حتى يمكن التفريق بين الحرة والأمة فلا يتم إيذاء الحرة، أليست الأمة امرأة لا يجوز ايذاؤها كما هو الحال في الحرة؟! فإن قيل إنه خفف على الإماء لأنهن يعملن فيكون في الحجاب مشقة عليهن وأنه لو وجدت الفتنة بهن لوجب عليهن الحجاب، فهنا قد يقول قائل: إذا لماذا كان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء إذا تحجبن؟ ولماذا هذا التفريق؟.3ـ إذا كان نزول الحجاب لمنع الفتنة ولستر النساء وكان هذا السبب معتبرا ومقصودا في الشرع فكيف يقول الفقهاء إن عورة الأمة كالرجل من السرة الى الركبة حتى في خارج الصلاة؟ وإذا كان منع الفتنة هو المقصود الأعلى من وجود الحجاب فلماذا كان عمر رضي الله عنه يضرب بعض الإماء لأنهن كن يضعن الحجاب كما تفعل الحرة؟ أليست الأمة امرأة يمكن أن تحصل الفتنة بالنظر إلى وجهها؟ ثم إنه في أثر آخر ورد: كنَّ إماءُ عمرَ رضيَ اللهُ عنه يخدُمْنَنا كاشفاتٍ عن شعورهنَّ تضطربُ ثُدِيُّهُنَّ ـ فكيف تظهرن أثداؤهن في حضرة الرجال؟ ألسن موضع فتنة هنا؟ ولا يمكن أن يقال إنهن هنا لم يكن موضع فتنة، لأن النساء سواء في حصول الفتنة بهن خاصة إذا أظهرن مواضع الفتنة كالصدر مثلا، فحتى لو كانت المرأة قبيحة وأظهرت شيئا من هذا لحصلت الفتنة بها، أتمنى من فضيلتكم الإجابة على هذه النقاط نقطة نقطة بإسهاب، رفع الله قدركم وأجزل لكم المثوبة والأجر.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يصح أن يقال: إن علة فرض الحجاب هي التفريق بين الحرة والأمة! فإن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وهذا يعني أنه عند عدم الحاجة للتفريق بينهما، فإن حكم الحجاب يزول ! كما في زماننا هذا، حيث لا توجد إماء، وإنما الصحيح أن يقال: إن الشريعة فرقت بين الحرة والأمة في مسألة الحجاب، أو في تعيين حدود العورة، وهذا على مذهب جمهور أهل العلم، فيبقى الحكم أبدا، سواء أوجدت الحاجة إلى هذا التفريق أو لم توجد، ويبقى السؤال عن حكمة التفريق بينهما في هذا الحكم، وهو ما سبق أن بيناه في عدة فتاوى، منها الفتاوى التالية أرقامها: 114264، 46973، 117967، 185907.
وهنا ننبه على أن قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية ـ رضي الله عنها ـ مما استدل به جمهور أهل العلم على التفريق بين عورة الحرة وعورة الأمة، ومع ذلك فالراجح هو التفريق أيضا بين مسألة عورة الأمة، ومسألة جواز النظر إليها، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: اختار النووي أن الأمة كالحرة في تحريم النظر إليها، لكن يعكر عليه ما في الصحيحين في قصة صفية فقلنا: إن حجبها فهي زوجته وإن لم يحجبها فهي أم ولد ـ كذا اعترضه ابن الرفعة، وتعقب بأنه يدل على أن الأمة تخالف الحرة فيما تبديه أكثر مما تبديه الحرة، وليس فيه دلالة على جواز النظر إليها مطلقا. اهـ.
وعلى أية حال، فهذه المسألة وقع فيها خلاف بين أهل العلم، فمنهم من سوى بين الحرة والأمة في العورة، وهو مذهب بعض الحنابلة وابن حزم، قال ابن قدامة في المغني: سوى بعض أصحابنا بين الحرة والأمة، لقوله تعالى: ولا يبدين زينتهن {النور: 31} الآية، ولأن العلة في تحريم النظر الخوف من الفتنة، والفتنة المخوفة تستوي فيها الحرة والأمة، فإن الحرية حكم لا يؤثر في الأمر الطبيعي. اهـ.
واختار هذا القول الشيخ الألباني في حجاب المرأة المسلمة، وقال عن التفريق بين الحرة والأمة: وهذا ـ مع أنه لا دليل عليه من كتاب أو سنة ـ مخالف لعموم قوله تعالى: وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ {الأحزاب: 59}.. ولهذا قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط: والظاهر أن قوله: وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ـ يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح ـ وسبقه إلى ذلك الحافظ ابن القطان في أحكام النظر وغيره، وما أحسن ما قال ابن حزم في المحلى: وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله واحد، والخلقة والطبيعة واحدة، كل ذلك في الحرائر والإماء سواء، حتى يأتي نص في الفرق بينهما في شيء فيوقف عنده. اهـ.
وأجاب الألباني عن قصة زواج صفية فقال: ولا يعارض ما تقدم حديثَ أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اصطفى لنفسه من سبي خيبر صفية بنت حيي .. ـ وذكر الحديث ـ لأنه ليس فيه نفي الجلباب، وإنما فيه نفي الحجاب، ولا يلزم منه نفي الجلباب مطلقًا إلا احتمالًا، ويحتمل أن يكون المنفي الجلباب الذي يتضمن حجب الوجه أيضًا، كما هو صريح قوله في الحديث نفسه: وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ـ ويقوي هذا الاحتمال أيضًا ما سيأتي بيانه، فهذه الخصوصية هي التي كان بها يعرف الصحابة حرائره عليه السلام من إمائه، وهي المراد من قولهم المتقدم سلبًا وإيجابًا: إن يحجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد ـ فيتضح من هذا أن معنى قولهم: وإن لم يحجبها ـ أي: في وجهها فلا ينفي حجب سائر البدن من الأمة وفيه الرأس فضلًا عن الصدر والعنق فاتفق الحديث مع الآية والحمد لله على توفيقه. اهـ.
والمقصود من هذا: هو إثبات الخلاف في المسألة، فتبقى محل نظر واجتهاد، فإن كان الراجح هو مذهب الجمهور في التفريق بين الحرة والأمة، فينبغي أن يقيد ذلك بدرء الفتنة إن عمت بها البلوى أو كانت الأمة ذات جمال لافت، وتجد الإشارة إلى هذا من كلام الإمام ابن القيم في الفتويين الأوليين من الفتاوى المحال عليها آنفا، ومن هذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية في حجاب المرأة ولباسها في الصلاة: الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب ووجب غض البصر عنها ومنها، وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء ولا ترك احتجابهن وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بما أمر الحرائر، والسنة فرقت بالفعل بينهن وبين الحرائر ولم تفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام، بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، واستثنى القرآن من النساء الحرائر القواعد فلم يجعل عليهن احتجابا، واستثنى بعض الرجال وهم غير أولي الإربة فلم يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء، فأن يستثنى بعض الإماء أولى وأحرى، وهن من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها وإبداء زينتها، وكما أن المحارم أبناء أزواجهن ونحوه ممن فيهن شهوة وشغف لم يجز إبداء الزينة الخفية له، فالخطاب خرج عاما على العادة فما خرج عن العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إليها فتنة وجب المنع من ذلك كما لو كانت في غير ذلك. اهـ.
وقال أيضا: كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات متكشفات الرؤوس ويخدمن الرجال، مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد. اهـ.
والله أعلم.