عنوان الفتوى : أول من ضرب النقود في الإسلام.. وتفنيد شبهات حول نقشها

مدة قراءة السؤال : 3 دقائق

لقد ذكرتم في فتوى في الرد على الدكتور بروين: ثم إن مما يطول منه العجب استدلال الدكتور أبي بكر بأن عمر بن الخطاب: سك نقودا على الطريقة الفارسية عليها صورة الملك الفارسي، وكذلك فعل معاوية، وسك عبد الملك بن مروان دراهم ودنانير عليها صورة الخليفة قائما قابضا بيده على قبضة سيفه!! ولم نجد من قال بهذا القول إلا القسيس لويس شيخو اليسوعي مؤسس مجلة المشرق في كتابه: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية ـ ولكنني تفاجأت عند رد الدكتور على كلامكم بالآتي: ونحن لا نعتمد على القساوسة في مثل هذه المسائل الشرعية، بل اعتمادنا على علماء المسلمين المؤرخين المعتمدين في هذا العلم ومنهم الإمام الحجة في التواريخ العلامة المقريزي ـ رحمه الله ـ وهذه المنقولات عنه بالمصدر والصفحة: يقول الإمام المقريزي: وكانت نقود العرب في الجاهلية التي تدور بينها الذهب والفضة لا غير، ترد إليها من الممالك دنانير الذهب قيصرية من قبل الروم، ودراهم فضة على نوعين: سوداء وافية، وطبرية عتيقة ـ ويقول المقريزي بعد حديثه عن أوزانها: فلما بعث الله نبيه محمدا عليه السلام أقر أهل مكة على ذلك كله وقال: الميزان ميزان مكة، وفي رواية ميزان المدينة... وعمل بذلك أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أيام خلافته، بعد رسول الله عليه السلام، ولم يغير منه شيئا، فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر النقود على حالها، ولم يعرض لها بشيء حتى كانت سنة ثماني عشر من الهجرة ـ ويقول المقريزي: وضرب عمر الدراهم على نقش الكسروية ـ نسبة إلى كسرى ـ وشكلها بأعيانها، غير أنه زاد في بعضها الحمد لله، وفي بعضها رسول الله، وعلى آخر لا إله إلا الله وحده وعلى آخر عمر ـ والصورة صورة الملك لا صورة عمرـ ويقول المقريزي: وضرب معاوية أيضا دنانير عليها تمثاله متقلدا سيفا ـ ويقول المقريزي: فضرب الحجاج الدراهم ونقش عليها: قل هو الله أحد.. فقدمت تلك الدراهم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها بقية من الصحابة فلم ينكروا منها سوى نقشها، فإن فيه صورة، وكان سعيد بن المسيب يبيع بها ويشتري، ولا ينكر من أمرها شيئا ـ فماذا تقولون بارك الله فيكم؟ والله أحرجنا جدا فلم نعهد منكم تقصيرا, فنرجو توضيح المسألة.

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فبداية نود لفت نظر الأخ السائل إلى أن موضع إشكاله هذا ليس له أثر في موضوع الفتوى السابقة برقم: 231577، من حيث المضمون والنتيجة، لأنها تتعلق بحواشي المسألة وفروعها لا أصلها ولبها! ثم إننا بالفعل لم نكن قد اطلعنا على كتاب: إغاثة الأمة بكشف الغمة ـ الذي اعتمد عليه الدكتور، خاصة وأن موضوعه لا يتعلق بمسألة النقود بالأصالة، وإنما ذكر المقريزي ذلك في معرض حديثه عن أسباب وقوع المحن، ومن جملتها رواج الفلوس، بدلا من الدراهم والدنانير، ولم يكن مراده تحرير شكل النقود من حيث الصورة وعدمها، ومن نقشها: انظر كتاب إغاثة الأمة ص: 124ـ 127ـ ولذلك، فإن موضع الشاهد من هذا الكلام في مسألة الصور لم يذكره المقريزي نفسه في رسالته الخاصة بالنقود، وهي رسالة: شذور العقود في ذكر النقود ت، وهي مطبوعة مع رسائل أخرى له، طبعتها دار الحديث بالقاهرة، ونص كلامه فيها مقارنة بالمواضع التي نُقلت في السؤال كالآتي: رسائل المقريزي ص: 159ـ 161ـ فلما كانت سنة ثماني عشرة من الهجرة وهي السنة الثامنة من خلافته أتته الوفود... فضرب حينئذ عمر ـ رضي الله عنه ـ الدراهم على نقش الكسروية وشكلها بأعيانها غير أنه زاد في بعضها الحمد لله، وفي بعضها: محمّد رسول الله، وفي بعضها: لا إله إلا الله وحده، وفي آخر مدة عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل، فلما بويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ضرب في خلافته دراهم نقشها: الله أكبر ـ فلما اجتمع الأمر لمعاوية بن أبي سفيان... وضرب معاوية أيضا دنانير عليها تمثال متقلدا سيفا... فلما قام عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ بمكة ضرب دراهم مدوّرة، وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة، وكان ما ضرب منها قبل ذلك ممسوحا غليظا قصيرا، فدورها عبد الله، ونقش على أحد وجهي الدراهم: محمد رسول الله، وعلى الآخر: أمر الله بالوفاء والعدل... فلما استوثق الأمر لعبد الملك بن مروان بعد مقتل عبد الله ومصعب ابني الزبير فحص عن النقود والأوزان والمكاييل، وضرب الدنانير والدراهم في سنة ست وسبعين من الهجرة... وكتب إلى الحجاج وهو بالعراق أن اضربها قبلي، فضربها وقدمت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبها بقايا الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ فلم ينكروا منها سوى نقشها، فإن فيها صورة، وكان سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ يبيع بها ويشتري ولا يعيب من أمرها شيئا. اهـ.

وأنت ترى خلو هذا النص من عبارة: والصورة صورة الملك، لا صورة عمر ـ كما أنك تجد في كتابي المقريزي النص على أن بقايا الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم ينكروا منها سوى نقشها، فإن فيها صورة! وهذا الموضع أولى في الاستدلال على مسألتنا، وقد رجعنا لرسالة: الأوزان والأكيال الشرعية ـ للمقريزي، فوجدنا فيها فصلا مختصرا في آخرها عن اختلاف الناس في أول من ضرب الدراهم، ذكر فيه المقريزي ثلاثة أقوال: عمر بن الخطاب، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، ونقل في القول الأول عن ابن القطان في مقالته في الأكيال والأوزان إشارة إلى أن عمر ـ رضي الله عنه ـ ضرب الدرهم لكنه لم يغير نقشه ـ ص: 83.

فأنت ترى اختلاف النقل في كتب المقريزي نفسه فيما يتعلق بنقش الدراهم ووضعه وتغييره!

وقد توسع الكتاني في التراتيب الإدارية في الكلام على مسألة النقود وأول من ضربها، ونقل فيها نقولا كثيرة ومختلفة، ومن جملتها انتقاد جرجي زيدان من الرحالة الشيخ محمد أمين بن الشيخ حسن الحلواتي المدني في رسالته: نشر الهذيان من تاريخ جرجي زيدان ـ بقوله: لم يثبت في الرواية الصحيحة أن أحدا من الخلفاء الأربعة ضرب سكة أصلا، إلا علي بن أبي طالب، فإنه ضرب الدراهم على ما نقله صبحي باشا الموره لي في رسالة له، رسم فيها صورة ذلك الدرهم، وعزا ذلك إلى لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة، وأما هذه الثلاثة المسكوكات التي رسمها جرجي زيدان: فلا تثبت على فرض وجودها، لأنه لم تكن عليها تواريخ دالة على زمانها، وأكبر شيء فيها دال على كذبها على الخلفاء كون أحدها فيه صورة شخص، وهذا مما تحرمه الديانة الإسلامية، فكيف يفعل ذلك الخلفاء؟ وكون هذه المسكوكات مزورة غير بدع عن الإفرنج وبياعي الأنتيكات. اهـ.
وعلى أية حال، فالصحيح الذي ذكره أهل العلم أن السكة لم تضرب لا في العهد النبوي ولا في العهد الراشدي، كما سبق بيانه في الفتوى السابقة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ كما في مختصر الفتاوى المصرية ص: 201 ـ لم يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه دراهم، وإنما حدث ضربها في خلافة عبد الملك. اهـ.

وقال ابن العراقي في طرح التثريب: أما الدراهم التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلم يكن عليها قرآن ولا اسم الله، ولا ذكر، لأنها كانت من ضرب الروم، وغيرهم من أهل الكفر، وإنما ضربت دراهم الإسلام في أيام عبد الملك بن مروان. اهـ.

وقال الشوكاني في السيل الجرار: الاعتبار بالدرهم الإسلامي المعامل به في أيام النبوة، وإن كان من غير ضريبة الإسلام، إذ لا ضربة في أيام النبوة ولا في أيام خلفاء الصحابة، وأول من ضرب الدرهم عبد الملك بن مروان. اهـ.

وعلى أية حال، فلا يصح الاستدلال في مسألة التصوير بالصور التي كانت على الدراهم أو الدنانير، وقد سبق لنا بيان وجه ذلك، وأنه باعتبار الحاجة والضرورة من جهة، ولامتهانها بالإنفاق والمعاملة من جهة، ويبقى بعد ذلك أدلة السنة من الأحاديث الصحيحة الثابتة في خصوص مسألة التصوير، فهي الأصل في هذا الباب.

والله أعلم.