عنوان الفتوى : حكم تغيير النذر أو تغيير صفته
ما الحكم إذا نذرت لله صيام شهرين متتابعين إذا تحقق لي أمر، ثم تراجعت وقررت نذرا جديدا بدلا من الأول وهو صيام شهرين أصوم يوما وأفطر يوما، ثم تراجعت عن هذا النذر ونذرت نذرا جديدا بدلا من الثاني، وهو صيام سنة، ولم أحدد الطريقة، ولم يتحقق لي ذلك الأمر الذي نذرت من أجله حتى الآن؟ وما هو النذر الذي أصومه؟ وهل الأجر في الوفاء بالنذر مضاعف ويساوي الأجر في عمل الطاعة دون نذر؟ وما هو الفرق بين من ينذر طاعة ويعمل طاعة دون نذر؟ أرجوكم المزيد من التفصيل، لا تبخلوا علينا بالرد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أولا أن النذر المعلق على شرط مكروه، وقيل: محرم، ومع ذلك يجب الوفاء به إذا حصل الشرط، وأن فعل الطاعة من غير نذر أفضل من التزام فعلها بالنذر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: إن النذر لا يأتي بخير إنما يستخرج به من البخيل.
قال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان: الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن نذر القربة على نوعين:
أَحَدُهُمَا: مُعَلَّقٌ عَلَى حُصُولِ نَفْعٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَعَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرُ كَذَا، أَوْ إِنْ نَجَّانِيَ اللَّهُ مِنَ الْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ الْمَخُوفِ، فَعَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرُ كَذَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ مُعَلَّقًا عَلَى نَفْعٍ لِلنَّاذِرِ، كَأَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَقَرُّبًا خَالِصًا بِنَذْرِ كَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ، وَأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ النَّذْرَ فِيهِ لَمْ يَقَعْ خَالِصًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، بَلْ بِشَرْطِ حُصُولِ نَفْعٍ لِلنَّاذِرِ، وَذَلِكَ النَّفْعُ الَّذِي يُحَاوِلُهُ النَّاذِرُ هُوَ الَّذِي دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ فِيهِ غَالِبٌ عَلَى النَّذْرِ وَأَنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ نَذْرُ الْقُرْبَةِ الْخَالِصُ مِنِ اشْتِرَاطِ النَّفْعِ فِي النَّذْرِ، فَهُوَ الَّذِي فِيهِ التَّرْغِيبُ وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُوفِينَ بِهِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الطَّيِّبَةِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ قَالَتْ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ لِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْسَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ فِيهَا قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ، دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا تَكَرَّرَ فِيهَا مِنْ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ، وَلَا يُقَدِّمُ شَيْئًا، وَلَا يُؤَخِّرُ شَيْئًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَكَوْنُهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ النَّاذِرَ أَرَادَ بِالنَّذْرِ جَلْبَ نَفْعٍ عَاجِلٍ، أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ عَاجِلٍ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ فِي ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ نَذْرَ النَّاذِرِ لَا يَرُدُّ شَيْئًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ مَا كَانَ يُرِيدُهُ النَّاذِرُ بِنَذْرِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَخْرِجُ بِذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ الشَّيْءَ الَّذِي نَذَرَ وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا، كَمَا ذَكَرْنَا.
الثَّانِي: أَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، وَهَذَا جَمْعٌ مُمْكِنٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاضِحٌ تَنْتَظِمُ بِهِ الْأَدِلَّةُ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهَا خِلَافٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ النَّاذِرَ الْجَاهِلَ، قَدْ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ قَدْ يَرُدُّ عنه ما كتبه الله عليه. انتهى.
وأما بخصوص الوفاء بهذه النذور عند تحقق شرطها الذي علقت عليه: فأما النذر الأول بصيام شهرين متتابعين فواجب، لأن النذر المعلق لا يمكن الرجوع فيه ولا إبطاله بنذر جديد، وهذا أصل مقرر عند أهل العلم، يقيسون عليه غيره مما يجب الالتزام بشرطه، كالعتق، كما جاء في الشرح الكبير على متن المقنع لأبي الفرج ابن قدامة: وإذا علق عتق عبده بشرط، كقوله: إن أديت إلي ألفا فأنت حر، أو إن دخلت الدار فأنت حر، فهي صفة لازمة، ألزمها نفسه ولا يملك إبطالها بالقول، قياساً على النذر. اهـ.
وقال أبو محمد بن قدامة في الكافي: إذا علق العتق بصفة، لم يملك إبطالها بالقول، لأنه كالنذر. اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج: وهو ـ يعني النذر ـ لا يجوز الرجوع عنه، ولا إبطاله. اهـ.
وسئل الشيخ ابن عثيمين في لقاء الباب المفتوح: عن شخص نذر إذا نجح في الامتحان ليصومن شهرين، وبعد ساعة عدل نيته إلى الشهر الواحد، ونجح في الامتحان، فما الحكم؟ فأجاب: الصيام طاعة من الطاعات، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه ـ وهذا الرجل نذر، فلزمه النذر بمجرد كلامه، ولا يمكن أن يحول الشهرين إلى الشهر، لأنه ثبت في ذمته شهران.. إن كان في نيته التتابع لزمه أن يكون الشهران متتابعين، وإلا فهو حر، إن شاء صام متتابعاً أو متفرقاً. اهـ.
وأما النذر الثاني: فإن كان السائل يعني به الشهرين السابقين في النذر الأول مع تغيير الصفة من التتابع إلى عدمه بصيام يوم وإفطار يوم ـ كما هو ظاهر سؤاله ـ فهذا لا يوجب عليه شيئا جديدا، ولا تزول به صفة التتابع التي قدمها في نذره الأول، لما سبق بيانه من أن النذر لا يمكن الرجوع عنه ولا إبطاله، وأما إن قصد به شهرين آخرين، فهو نذر جديد يجب الوفاء به أيضا إن حصل شرطه، وحينئذ فعليه صيام شهرين متتابعين، وشهرين آخرين يصوم منهما يوما ويفطر يوما، قال السرخسي في النكت: الناذر لو كان واحدا فقال: لله علي أن أصلي ركعتين، ثم قال: لله علي أن أصلي ركعتين، كانت الثانية غير الأولى.. لأن المنَكَّر إذا أعيد منكَّرا كان الثاني غير الأول. اهـ.
وأما النذر الثالث بصيام سنة، فالظاهر أنه لم يرد استئناف نذر مستقل، بل أراد أن يزيد في ما نذره من قبل، بحيث يدخل فيه ويكون بدلا عنه، فإن كان كذلك فيلزمه صيام سنة، ولا يجزؤه ذلك عن نذره الأول إلا إن صام من هذه السنة شهرين متتابعين، وأما التتابع في بقيتها فمحل خلاف بين أهل العلم، جاء في الموسوعة الفقهية:
اختلف الفقهاء في صفة صيام من نذر صيام سنة، وأطلق الصيام عن قيد التتابع، وعما إذا كان يلزم الناذر صيامها متتابعة، أو يجزئه صيامها مفرقة على اتجاهين:
الاتجاه الأول: يرى أصحابه أن من نذر صيام سنة مطلقة، فلا يلزمه في صيامها التتابع، وإنما هو بالخيار في ذلك، فإن شاء فرق، وإن شاء تابع.. إلى هذا ذهب الحنفية، وما أفطره من أيام الصيام المنذور يلزم الناذر قضاؤه في غير هذه السنة، وقال الليث بن سعد: يصوم السنة ويقضي رمضان ويومي العيدين ويصوم أيام التشريق، وما عليه مذهب المالكية أن من نذر صيام سنة بغير عينها فيلزمه صيام اثني عشر شهرا ليس فيها رمضان وليس فيها يوما العيدين ولا أيام منى، أو أيام الحيض والنفاس، وقضاها في غير هذه السنة، وإلى هذا الاتجاه ذهب الشافعية، فيرون أن للناذر إن اختار التفريق أن يصوم ثلاثمائة وستين يوما، أو اثني عشر شهرا بالهلال، وكل شهر استوعبه بالصوم فناقصه كالكامل، وإن انكسر شهر أتمه ثلاثين، وإن اختار التتابع صام سنة متوالية، وقضى رمضان والعيدين وأيام التشريق وأيام الحيض والنفاس، هذا هو ما عليه المذهب، وثمة وجه في المذهب أن الناذر لا يخرج عن نذره إلا بصيام ثلاثمائة وستين يوما، وهناك وجه آخر لبعض الأصحاب: أن الناذر إذا صام من المحرم إلى المحرم، أو من شهر إلى مثله أجزأه ولا يلزمه قضاء رمضان والعيدين وأيام التشريق، لأنه يصدق عليه أنه صام سنة، وما عليه مذهب الشافعية هو رواية عن أحمد، ووجه لبعض أصحابه...
الاتجاه الثاني: يرى من ذهب إليه أن من نذر صيام سنة مطلقة لزمه أن يتابع في صيامها، وهو رواية عن أحمد هي مشهور مذهب أصحابه، وعلى هذا لا يدخل في صيام هذه السنة شهر رمضان والعيدان، وفي دخول أيام التشريق في أيام السنة التي يلزم صيامها نذرا روايتان:
إحداهما: يلزمه صيام هذه الأيام، لأنها من جملة السنة.
والثانية: لا يلزم صيامها للنهي عنها، ويلزم الناذر وفقا لهذا المذهب أن يصوم اثني عشر شهرا، سوى رمضان والأيام المنهي عن صيامها، فإن ابتدأها الناذر من أول شهر أتم أحد عشر شهرا بالهلال إلا شهر شوال، فإنه يتمه بالعدد، لأنه لم يصم من أوله، وإن ابتدأها من أثناء شهر أتم ذلك الشهر بالعدد، والباقي بالهلال، ويلزمه في جميع الأحوال أن يقضي شهر رمضان والأيام المنهي عن صيامها.. اهـ.
ومن أهل العلم من جعل صيام السنة كاملة، من الصيام المنهي عنه، لدخوله في معنى الوصال أو صيام الأبد، وبالتالي حكموا بكراهة نذره، واستحبوا الخروج من النذر بكفارة يمين، جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: في جواب سؤال عن امرأة نذرت أن تصوم حولا كاملا لا تقطع منه يوما، إذا رزقها الله ولدا وعاش، فأجابت اللجنة بقولها: إذا كان الأمر كما ذكر، فإنه يستحب لك أن تكفري كفارة يمين، وهي: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم تجدي شيئا من ذلك فصومي ثلاثة أيام، لأنه يكره صوم الحول كاملا بنذر أو بغير نذر. اهـ.
والخلاصة: أن السائل إن تحقق ما علق عليه نذره، فإنه إن صام سنة كاملة أجزأه ذلك نذوره الثلاثة، إن صام منها شهرين متتابعين، وأما إن فرق صيام السنة على ثلاثمائة وستين يوما، أو اثني عشر شهرا، دون تتابع بين شهرين في الصيام، فيلزمه أن يصوم شهرين متتابعين عن نذره الأول. قال النووي في المجموع: لو نذر صوم شهرين معينين، ثم نذر صوم كل اثنين، فإنه يصوم الشهرين المعينين عن النذر الأول ولا يلزمه قضاء الأثانين، لأن صومها مستحق بالنذر الأول، وهذا لا خلاف فيه، وإن نذر صوم كل اثنين ثم نذر صوم شهرين بأعيانهما، فإنه يصوم أيام الشهرين إلا الأثانين عن النذر الثاني، وأما الأثانين فيصومها عن النذر الأول، ولا يلزمه قضاؤها عن النذر الثاني، لأنها مستحقة للصوم عن النذر الأول فلم يتناولها الثاني. اهـ.
وأما مسألة أجر الوفاء بالنذر وأجر الطاعة من دون نذر، والمفاضلة بينهما، فقال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: ما ثبت بأصل الشرع، فالمصالح المتعلقة به أقوى وأرجح، لأنها انتهضت سببا للوجوب، وأما ما ثبت وجوبه بالنذر ـ وإن كان مساويا للواجب بأصل الشرع في أصل الوجوب ـ فلا يساويه في مقدار المصلحة، فإن الوجوب ههنا إنما هو للوفاء بما التزمه العبد لله تعالى، وأن لا يدخل فيمن يقول ما لا يفعل، وهذا بمفرده لا يقتضي الاستواء في المصالح، ومما يؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر ـ مع وجوب الوفاء بالنذر، فلو كان مطلق الوجوب مما يقتضي مساواة المنذور بغيره من الواجبات: لكان فعل الطاعة بعد النذر أفضل من فعلها قبل النذر لأنه حينئذ يدخل تحت قوله تعالى فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه أنه: ما تقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم ـ ويحمل ما تقدم من البحث على أداء ما افترض بأصل الشرع، لأنه لو حمل على العموم لكان النذر وسيلة إلى تحصيل الأفضل، فكان يجب أن يكون مستحبا، وهذا على إجراء النهي عن النذر على عمومه. اهـ.
والطاعة المؤداة بنذر معلق على شرط كنذر السائل، لا تكون بحال أفضل من أدائها من غير نذر، وبذلك يخرج نذر المجازاة من المفاضلة، فهو مكروه على أية حال، قال ابن حجر في فتح الباري: أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: يوفون بالنذر ـ قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم، فسماهم الله أبرارا، وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة. اهـ.
وقال الشيخ صالح الفوزان: لا ينبغي للإنسان أن ينذر، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل ـ فلا ينبغي للإنسان أن ينذر، الإنسان ينبغي له أن يتقرب إلى الله بالطاعات والقربات من غير نذر، ولا يلزم نفسه إلا ما أوجبه الله عليه في أصل الشريعة، أما أن يدخل نفسه في حرج، ويحملها واجبًا ثقيلًا من صيام أو عبادة لا تجب عليه بأصل الشرع، ثم بعد ذلك يتحرج ويطلب المخارج، فهذا شيء يجب عليه أن يحذر منه من البداية وألا ينذر. اهـ.
والله أعلم.