عنوان الفتوى : تهافت الاستدلال بحديث: لا ربا إلا في النسيئة، على حل ربا البنوك
ورد في جزء من حديث في صحيح البخاري: لا ربا إلا في النسيئة ـ أو قريب من هذا المعنى، وبلغني أن أحدا ممن ينسبون إلى الفقه ذكره واحتج به على حل ربا البنوك لاتفاق الطرفين منذ البداية، فما هو تفسير هذه المقولة التي في صحيح البخاري؟. وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحديث المشار إليه: لا ربا إلا في النسيئة ـ خرجه البخاري في صحيحه من حديث أسامة بن زيد، وهو جار على أسلوب من أساليب اللغة العربية، قال شيخ الإسلام في الفتاوى: ومن كلام العرب وغيرهم أنهم ينفون الشيء في صيغ الحصر أو غيرها تارة لانتفاء ذاته، وتارة لانتفاء فائدته ومقصوده، ويحصرون الشيء في غيره: تارة لانحصار جميع الجنس منه وتارة لانحصار المفيد أو الكامل فيه، ثم إنهم تارة يعيدون النفي إلى المسمى، وتارة يعيدون النفي إلى الاسم، وإن كان ثابتا في اللغة، إذا كان المقصود الحقيقي بالاسم منتفيا عنه ثابتا لغيره.. وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافا ـ وقال: ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: الذي لا درهم له ولا دينار، فقال: ليس ذلك، إنما المفلس الذي يجيء يوم القيامة .... الحديث، وقال: ما تعدون الرقوب؟... الحديث، فهذا نفي لحقيقة الاسم من جهة المعنى الذي يجب اعتباره، باعتبار أن الرقوب والمفلس إنما قيد بهذا الاسم لما عدم المال والولد، والنفوس تجزع من ذلك، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن عدم ذلك حيث يضره عدمه هو أحق بهذا الاسم ممن يعدمه حيث قد لا يضره ضررا له اعتبار، ومثال هذا أن يقال لمن يتألم ألما يسيرا ليس هذا بألم، إنما الألم كذا وكذا، ولمن يرى أنه غني ليس هذا بغني، إنما الغني فلان، وكذلك يقال في العالم والزاهد، كقولهم إنما العالم من يخشى الله تعالى، ومنه قولهم لا علم إلا ما نفع ولا مدينة إلا بملك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: لا ربا إلا في النسيئة ـ أو: إنما الربا في النسيئة ـ فإنما الربا العام الشامل للجنسين وللجنس الواحد المتفقة صفاته إنما يكون في النسيئة، وأما ربا الفضل فلا يكون إلا في الجنس الواحد ولا يفعله أحد إلا إذا اختلفت الصفات، كالمضروب بالتبر والجيد بالرديء، فأما إذا استوت الصفات فليس أحد يبيع درهما بدرهمين، ولهذا شرع القرض هنا، لأنه من نوع التبرع، فلما كان غالب الربا وهو الذي نزل فيه القرآن أولا وهو ما يفعله الناس وهو ربا النساء قيل: إنما الربا في النسيئة ـ وأيضا ربا الفضل إنما حرم لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فالربا المقصود بالقصد الأول هو ربا النسيئة، فلا ربا إلا فيه وأظهر ما تبين فيه الربا الجنس الواحد المتفق فيه الصفات، فإنه إذا باع مائة درهم بمائة وعشرين ظهر أن الزيادة قابلت الأجل الذي لا منفعة فيه، وإنما دخل فيه للحاجة ولهذا لا تضمن الآجال باليد ولا بالإتلاف، فلو تبقى العين في يده أو المال في ذمته مدة لم يضمن الأجل، بخلاف زيادة الصفة فإنها مضمونة في الإتلاف والغصب وفي البيع إذا قابلت غير الجنس، وهذا باب واسع، فإن الكلام الخبري إما إثبات وإما نفي، فكما أنهم في الإثبات يثبتون للشيء اسم المسمى إذا حصل فيه مقصود الاسم وإن انتفت صورة المسمى، فكذلك في النفي، فإن أدوات النفي تدل على انتفاء الاسم بانتفاء مسماه، فكذلك تارة، لأنه لم يوجد أصلا، وتارة لأنه لم توجد الحقيقة المقصودة بالمسمى، وتارة لأنه لم تكمل تلك الحقيقة، وتارة لأن ذلك المسمى مما لا ينبغي أن يكون مقصودا، بل المقصود غيره. انتهى بتصرف يسير.
وعليه؛ فربا النساء حرام، وربا الفضل حرام، وإن كان ربا النساء أشد حرمة، لكونه من تحريم المقاصد ـ كما قيل ـ والمحرم تحريم المقاصد أشد من المحرم تحريم الوسائل، قال ابن القيم: المحرمات نوعان: محرم لذاته لا يباح بحال، ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت، والربا أشد محرمات العقود، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، لكنه متفاوت، فربا الفضل لا يساوي ربا النساء، فتحريم ربا النساء من تحريم المقاصد، وتحريم ربا الفضل من تحريم الوسائل وسد الذرائع، ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة.
وقال شيخه في مجموع الفتاوى: ربا الفضل إنما حرم، لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة.
وعلى كل، فلا اعتبار لمن أباح الربا وسماه بغير اسمه أو غيره من المحرمات الثابتة، بل العبرة بالدليل، ثم إن القرض المشروط فيه الفائدة ـ سواء شرطت أول العقد أو عند العجز عن السداد ـ هو من ربا النسيئة المجمع على تحريمه، لا من ربا الفضل، فلا وجه للكلام الذي بلغك.
والله أعلم.