عنوان الفتوى : رفع المرأة صوتها بالتلبية.. رؤية شرعية
روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن القاسم قال: (خرجَ معاويةُ ليلةَ النَّفرِ، فسمعَ صوتَ تلبيةٍ، فقالَ: مَنْ هذَا؟ قالُوا: عائشةُ، اعتمرَتْ مِن التَّنعيمِ، فذكرْتُ ذلِكَ لعائشةَ، فقالَتْ: لو سألَنِي لأخبرْتُه) فهل يجوز رفع صوت المرأة في التلبية - جزاكم الله خيرًا -؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالسنة للمرأة ألا ترفع صوتها بالتلبية، وهذا إجماع، أو كالإجماع من أهل العلم، قال في الإنصاف: السنة ألا ترفع صوتها، حكاه ابن المنذر إجماعًا. وقال ابن قدامة - رحمه الله -: وَلَا تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ، إلَّا بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ رَفِيقَتَهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تُسْمِعَ نَفْسَهَا، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْإِهْلَالِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ بِهَا، وَلِهَذَا لَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ، وَلَا إقَامَةٌ، وَالْمَسْنُونُ لَهَا فِي التَّنْبِيهِ فِي الصَّلَاةِ التَّصْفِيقُ دُونَ التَّسْبِيحِ.
وفي أضواء البيان للعلامة الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: قَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ: إِنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، لِتُسْمِعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، وَعَلَّلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ خَفْضَ الْمَرْأَةِ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ، بِخَوْفِ الِافْتِتَانِ بِصَوْتِهَا، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى: «فَتْحُ الْعَزِيزِ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ»: وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الرَّفْعُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَلَا يَرْفَعُ حَيْثُ يَجْهَدُ، وَيُقْطَعُ صَوْتُهُ، وَالنِّسَاءُ تَقْتَصِرْنَ عَلَى إِسْمَاعِ أَنْفُسِهِنَّ، وَلَا يَجْهَرْنَ كَمَا لَا يَجْهَرْنَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ الْقَاضِي الرُّوْيَانِيُّ: وَلَوْ رَفَعَتْ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ لَمْ يَحْرُمْ; لِأَنَّ صَوْتَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا. اهـ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الرُّويَانِيِّ ثُمَّ قَالَ: وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ: لَا يَحْرُمُ لَكِنْ يُكْرَهُ، صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْبَنْدَنِيجِيُّ، وَيَخْفِضُ الْخُنْثَى صَوْتَهُ كَالْمَرْأَةِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ الرَّخِيمَةُ الصَّوْتِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ صَوْتَهَا مِنْ مَفَاتِنِ النِّسَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا رَفْعُهُ بِحَالٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّوْتَ الرَّخِيمَ مِنْ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ ومفاتنها، ولأجل ذلك يكثر ذكره في التشبيب بالنساء. انتهى كلامه - رحمه الله -.
وخالف ابن حزم في ذلك، فرأى أن للمرأة رفع صوتها بالتلبية، قال في المحلى: وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ لَيْلَةَ النَّفَرِ، فَسَمِعَ صَوْتَ تَلْبِيَةٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيمِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ سَأَلَنِي لَأَخْبَرْته؛ فَهَذِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَرْفَعُ صَوْتَهَا حَتَّى يَسْمَعَهَا مُعَاوِيَةُ فِي حَالِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا. انتهى. والصواب - إن شاء الله - قول الجماهير.
وأما قصة عائشة المذكورة، فهي: إنما كانت في أيام معاوية - رضي الله عنه - وعائشة إذ ذاك قد كبرت، والممنوع إنما هو رفع الشابة صوتها بالتلبية حيث تخاف الفتنة، فلا دليل في القصة على مشروعية رفع كل امرأة صوتها بالتلبية؛ كما هو ظاهر.
والله أعلم.