عنوان الفتوى : قرين الجن وقدرته على إسقاط الحمل
أنا متزوجة من عدة سنوات وكلما حملت أسقطت جنيني، فقالت لي إحدى النساء إن تابعتي قرينة من الجن تتسلط على الحمل فتسقطه فهل هذا الأمر صحيح، أفيدونا؟
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فلا وجود للتابعة وإنما ذلك من الخرافات القديمة، وأما القرين من الجن فهو ثابت بالكتاب والسنة، ووظيفة القرين هي الإغواء، وليس له قدرة على إسقاط الحمل، وينبغي على السائلة مراجعة الأطباء فهم أهل الاختصاص لمعرفة أسباب سقوط الحمل.
يقول الدكتور حسام عفانة – أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين- :
الاعتقاد بوجود التابعة من الجن، فكرة قديمة وهي من موروثات عرب الجاهلية، قال الهروي في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن حلوان الكاهن: [والكاهن هو الذي يتعاطى الأخبار عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار، وكانت في العرب كهنةٌ يدَّعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور الكائنة، ويزعمون أن لهم تابعة من الجن تلقى إليهم الأخبار] تحفة الأحوذي 4/413.
وهذه الفكرة من الخرافات التي لا وجود لها، ولا يمكن عقلاً ولا شرعاً أن تؤثر هذه التابعة المزعومة في الحمل فتسقطه، فالأمور كلها بيد الله عز وجل، وقد ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: (يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال:حديث حسن صحيح.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن لإجهاض الحمل أسباباً كثيرةً يعرفها الأطباء، فينبغي مراجعة الأطباء فهم أهل الاختصاص في ذلك.
ويجب التفريق بين التابعة المزعومة، وبين القرين وهو من الجن الموكل بكل إنسان، فالقرين ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} -سورة ق الآية27-.
قال الإمام البخاري في باب تفسير سورة ق:[وقال قرينه: الشيطان الذي قيض له] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/754.
وقال الإمام الطبري في تفسير الآية السابقة: [يقول تعالى ذكره: قال قرين هذا الإنسان الكفَّار المنَّاع للخير، وهو شيطانه الذي كان موكلاً به في الدنيا كما حدثني … عن ابن عباس قوله: (قال قرينه ربنا ما أطغيته) قال: قرينه شيطانه.] تفسير الطبري 22/357. وقال تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }سورة الزخرف الآية 36. وثبت في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحدٍ إلا وقد وكِّل به قرينُه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلمُ، فلا يأمرني إلا بالخير) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (فأسلم) برفع الميم وفتحها، وهما روايتان مشهورتان فمن رفع قال: معناه: أسلمُ أنا من شره وفتنته، ومن فتحَ قال: إن القرين أسلمَ، من الإسلام وصار مؤمناً لا يأمرني إلا بخير، واختلفوا في الأرجح منهما فقال الخطابي: الصحيح المختار الرفع، ورجح القاضي عياض، الفتح وهو المختار، لقوله: (فلا يأمرني إلا بخير)، واختلفوا على رواية الفتح، قيل: أسلمَ بمعنى استسلم وانقاد، وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم ( فاستسلم)، وقيل: معناه صار مسلماً مؤمناً، وهذا هو الظاهر، قال القاضي: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه. وفي هذا الحديث: إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان] شرح النووي على مسلم 6/293.
وروى مسلم بإسناده عن عروة أن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً، قالت فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع فقال: (ما لك يا عائشة أغرت) فقلت وما لي لا يغار مثلي على مثلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقد جاءك شيطانك). قالت يا رسول الله أو معي شيطان، قال: نعم . قلت ومع كل إنسان قال: نعم . قلت ومعك يا رسول الله قال: نعم ولكن ربى أعانني عليه حتى أسلمَ ).
فهذه النصوص وغيرها تثبت أن كل إنسانٍ قد وكِّل به قرينٌ من كفرة الجن، وعمل هذا القرين أنه يغوي الإنسان ويوسوس له. ونحن نؤمن أن الجن خلق من خلق الله عز وجل وأن لهم قدرات خاصة بهم كقدرتهم على سرعة الحركة مثلاً كما قال تعالى:{قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} -سورة النمل الآية 39-. ولكن لا يصح أن نبالغ في قدراتهم، فهم لا يقدرون على إلحاق الضرر بالإنسان إلا بإذن الله عز وجل، كما أنه لا سلطان لهم على عباد الله الصالحين كما قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} -سورة الإسراء الآيتان 64-65- . ولهم تسلط على الناس الضالين الغاوين كما قال تعالى:{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}سورة النحل الآيتان 99- – 100.
ويمكن للمسلم أن يحارب الشيطان وأن ينتصر عليه إذا تمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، [ومن الأسباب المعينة على السلامة من شر الشيطان وجنوده:
1- الإيمان بالله وعبادته بإخلاص والتوكل عليه والاستعاذة به.
قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}سورة الأعراف الآية200، وقال الله تعالى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ }سورة النحل الآيات 98-100.وقد أخبر الله تعالى عن الشيطان أنه قال:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } سورة الحجر الآيتان 39-40. فأجابه الله{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} -سورة الحجر الآيتان 41-42.
2- الالتزام بالكتاب والسنة والإكثار من تلاوة القرآن ولاسيما سورة البقرة وبالأخص آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من السورة.
ففي حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.} رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.) رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة: (أن الشيطان قال له إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقول الشيطان، قال: صدقك وهو كذوب). رواه البخاري.
وروى النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان)رواه الترمذي والحاكم والطبراني، وقال الهيثمي رجاله ثقات وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب.
3- المحافظة على الصلاة في الجماعة والأذان لها وقيام الليل.
فقد روى أبو الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية) رواه النسائي وقال: قال السائب -أحد رواة الحديث- يعني بالجماعة جماعة الصلاة، ورواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وعن ابن مسعود قال: (ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) رواه البخاري ومسلم.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة،فأصبح نشيطاً طيب النفس،وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) رواه البخاري ومسلم.
4- المحافظة على ذكر الله تعالى دائماً، ولا سيما الأذكار المقيدة: صباحاً ومساء عند النوم وعند الدخول والخروج والأكل والجماع وعند الخلاء ونزع الثياب.
ففي حديث الحارث الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وآمركم بذكر الله كثيراً، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) رواه أحمد والترمذي والحاكم وأبو يعلى وصححه العلامة الألباني. ويمكن مراجعة كتب الأذكار للتعرف على أدعية الدخول والخروج والأكل والشرب والجماع وعند الخلاء ونزع الثياب وأذكار الصباح والمساء.
5- الالتزام بالجماعة.
ففي حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) رواه الترمذي والحاكم وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي.
6- البعد عن اتباع خطوات الشيطان ومظان وجوده، كالسوق ومجالس النساء ولا سيما الخلوة والانفراد بهن، ومجالس الغناء.
قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } -سورة النور الآية21-، وفي الحديث: (لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، ففيها باض الشيطان وفرخ) رواه مسلم، وفي الحديث: (ألا لا يخلونّ رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. ويمكن مراجعة كتاب إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان لابن القيم، وتلبيس إبليس لابن الجوزي، ووقاية الإنسان من الجن والشيطان لوحيد عبد السلام بالي، والصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة لمصطفى العدوي والأذكار النووية وغيرها فإنها كتب نافعة في هذا الباب.
وخلاصة الأمر أنه لا وجود للتابعة وإنما ذلك من الخرافات، وأما القرين فهو من الجن وهو ثابت بالكتاب والسنة، وليس من قدرة الجن إسقاط الحمل، وينبغي مراجعة الأطباء فهم أهل الاختصاص لمعرفة أسباب سقوط الحمل.
والله أعلم.