وقفة مع قوله تعالى: { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار }
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
وقفة مع قول الله تعالى:﴿ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ﴾
قال تعالى على لسان ابن آدم الأول: ﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 29].
قد يقال: لم قال ذلك، وتمنِّي وقوع المسلم في المعصية أو الحرام و دخول النار لا يجوز؟! وكيف إذا كان هذا المسلم أخًا شقيقًا كما هو الحال هنا؟
ذهب العلامة أبو زكريا الأنصاري - رحمه الله تعالى - في كتابه: "فتح الرحمن بكشف ما التبس من القرآن الكريم" إلى أن في الآية حذفًا، على وجهين محتمَلين:
الأول: إضمار "لا"، فيكون التقدير: إني لا أريد أن تبوء بإثمي؛ كما في قوله تعالى: ﴿ تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 85]؛ أي: لا تفتأ.
الثاني: إضمار مضاف، تقديره: إني أريد انتفاء أن تبوء؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ﴾ [البقرة: 93]؛ أي: حبه".
لكن كما هو معلوم الأصل في الكلام عدم الحذف، إلا بدليل.
فالحذف كما يقول الشيخ خالد السبت - حفظه الله تعالى - في قواعده: "خلاف الأصل وينبني على ذلك أمران:
أحدهما: "أنه إذا دار الأمر بين الحذف وعدمه كان الحمل على عدمه أَوْلى؛ لأن الأصل عدم الحذف"؛ ا.
هـ بتصرف يسير.
وهذا يَنطبِق على هذه الآية، فلا دليل على الحذف لإمكان حمْلها على معنى متّجه، وهو أن هذا القول من ابن آدم لأخيه ليس على حقيقته؛ فهو لا يتمنَّى أن يقع أخوه في جريمة القتل ويَلِج النار، وإنما قاله من باب الترهيب والتخويف لعله يرتدع، ويرجع عن غيِّه وضلاله.
وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "وهذا الكلام مُتضمِّن موعظة له لو اتعظ، وزجرًا له لو انزجر؛ ولهذا قال: ﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾؛ أي: تتحمَّل إثمي وإثمك، ﴿ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾.
وقال ابن عباس: "خوَّفه النارَ، فلم ينتهِ، ولم ينزجر"؛ تفسير ابن كثير.
وهناك أقوال أخرى منها ما ذهب إليه الإمام البيضاوي في تفسيره؛ حيث قال: "ولعله لم يُرِد معصية أخيه وشقاوته، بل قصده بهذا الكلام إلى أن ذلك إن كان لا محالة واقعًا، فأريد أن يكون لك لا لي، ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته وإرادة عقاب العاصي جائزة".
ويقول العلامة السعدي في تفسيره: "إنه إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلاً أو تقتلني، فإني أُوثِر أن تقتلني، فتبوء بالوِزرين".
ونقل الخازن في تفسيره المسمى "لباب التأويل في معاني التنزيل" عن الزجاج قوله: "معناه: إن قتلتَني فما أنا مريد ذلك، فهذه الإرادة منه بشرط أن يكون قاتلاً له، والإنسان إذا تمنَّى أن يكون إثم دمه على قاتله لم يُلَم على ذلك"؛ ا.
هـ.
ولعل الراجح - كما أسلفتُ - أن هذا القول كان على جِهة الترهيب والتخويف والتحذير، كما يُفهَم من قول الحَبْر ابن عباس - رضي الله عنهما.