عنوان الفتوى : حكم التدرج مع المدخنين لترك التدخين ، استنادا إلى التدرج في تحريم الخمر

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

اعتدت على أن أنصح المدخنين بالإقلاع عنه تدريجياً، فمثلاً الذي يدخن عشر سجائر ، قلت له : خفف إلى اثنتين ، والذي يدخن يومياً ، قلت له: خفف إلى ثلاثة أو أربعة أيام في الأسبوع ، وهكذا، مستنداً إلى فعل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في تركهم للخمر، فهل ما فعلته صحيح ؟

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق


الحمد لله
أولا :
سبق في جواب السؤال رقم : (10922) بيان حرمة التدخين ، والأدلة على ذلك .
وإذا ثبت تحريمه فالواجب على المؤمن أن يجتنب ما حرمه الله تعالى فورا ، وألا يماطل في ذلك.
وقد روى البخاري (7288) ، ومسلم (1337) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ ) .
وقد اتفق العلماء – إلا من شذ – على أن المنهي عنه يجب الانتهاء عنه في الحال ، ولا يجوز تأخير ذلك .
قال ابن الحاجب رحمه الله عن صيغة النهي : "حكمها .. الفور ، فيجب الانتهاء في الحال " انتهى من " مختصر ابن الحاجب " (2/95) .

فمن كان ذا عزيمة وحزم ، وجب عليه الانتهاء عن التدخين فورا ، ووجب على المحتسب والداعية أن يبين له ما يجب عليه من ذلك ، وأن ينهاه عن المنكر كله .

وأما إذا رأى المصلح أو الداعية أن شارب الدخان ليس عنده من العزيمة ما يجعله يترك المحرم فورا ، فإنه لابأس بالتدرج معه والتقليل من المحرم شيئا فشيئا ، فإن الشريعة جاءت بمنع المنكر والمحرم ، فإن لم يمكن منعه بالكلية ، فالمشروع السعي في تقليله بقدر الإمكان ، لاسيما إذا كان هذا التقليل يُرجى أن يكون وسيلة لمنعه بالكلية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين ، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما " انتهى من " مجموع الفتاوى " (20 / 48) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
"إنكار المنكر أربع درجات :
الأولى : أن يزول ويخلفه ضده .
الثانية : أن يقل ، وإن لم يزل بجملته .
الثالثة : أن يخلفه ما هو مثله .
الرابعة : أن يخلف ما هو شر منه .
فالدرجتان الأوليان : مشروعتان ، والثالثة موضع اجتهاد ، والرابعة محرمة " .
انتهى من "إعلام الموقعين" (3/4) .

ثانيا :
هناك فرق بين التدرج مع فاعل المعصية حتى يتمكن من تركها في النهاية ، كالصورة الواردة في السؤال ، وبين التدرج في تحريم الخمر .
فالتدرج في الخمر كان تدرجا في الحكم نفسه ، من الإباحة إلى التحريم الجزئي ، ثم إلى التحريم المطلق القاطع .
وهذا التدرج في الأحكام : قد انتهى بإكمال الشريعة ، واستقرار أحكامها ، ولم يعد صالحا للبناء عليه في مثل ذلك ، ولا للتدرج في تحريم المحرم ، أو اعتقاد حرمته .

ومن ذلك : شرب الدخان ، فإذا اعتقدنا أنه محرم ؛ لم يكن هناك وجه لقياس التدرج في تحريمه على تحريم شرب الخمر ، فيحرم كثيره مثلا ، ويباح قليله ، ثم بعد مدة : يحرم كله ، أو يبين للشارب أنه كله حرام .
وإنما المشروع في مثل ذلك : التدرج في أمره بالمعروف ، ونهيه عن منكر الدخان وغيره بحسب الأهمية ، والإمكان ؛ فينهى عن المنكر الأشد ، وإن استلزم ذلك تأخير نهيه عما هو دونه ، إن كان معلوما أن لن يطيع في الجانبين ، وينهى عن بعض المنكر ، إذا كان لا يمكن أن يدعه بالكلية ، كما هنا ؛ فإذا كان معلوما من حال هذا المدخن : أن لن يقلع عنه بالكلية ؛ فلا بأس أن يتدرج الداعية معه شيئا ، فشيئا ، حتى يقلع عنه تماما ، أو قدر المستطاع ، وقد الله تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) التغابن/16 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَدَبَّرَ أَنْوَاعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ الْوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا - كَمَا بَيَّنْته فِيمَا تَقَدَّمَ -: الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ؛ لَا التَّحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ .
مِثْلَ : أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِ بِطَاعَةِ ، فِعْلًا لِمَعْصِيَةِ أَكْبَرَ مِنْهَا ؛ فَيَتْرُكُ الْأَمْرَ بِهَا دَفْعًا لِوُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ ، مِثْلَ أَنْ تَرْفَعَ مُذْنِبًا إلَى ذِي سُلْطَانٍ ظَالِمٍ فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ ، مَا يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ذَنْبِهِ .
وَمِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ ، تَرْكًا لِمَعْرُوفِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً مِنْ تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ ؛ فَيَسْكُتُ عَنْ النَّهْيِ ، خَوْفًا أَنْ يَسْتَلْزِمَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ، مِمَّا هُوَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ تَرْكِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ.
فَالْعَالِمُ : تَارَةً يَأْمُرُ ، وَتَارَةً يَنْهَى ، وَتَارَةً يُبِيحُ ، وَتَارَةً يَسْكُتُ عَنْ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ أَوْ الْإِبَاحَةِ ، كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ ، أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ .
وَعِنْدَ التَّعَارُضِ : يُرَجَّحُ الرَّاجِحُ - كَمَا تَقَدَّمَ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُمْكِنِ: إمَّا لِجَهْلِهِ ، وَإِمَّا لِظُلْمِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ ؛ فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.. " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/58) ، وينظر للفائدة : " الاستقامة " ، لشيخ الإسلام أيضا (2/212) وما بعدها .

والله أعلم .