عنوان الفتوى : الردّ على من زعم أن إسراء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلى المسجد الأقصى الذي بفلسطين!.
سمعت شخصا فى التلفاز يقول : إن المسجد الأقصى الذي ورد ذكره في الآية (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، ليس الأقصى الذى في فلسطين ، ولكن في الطريق من مكة إلى الطائف كان هناك مسجدان ؛ المسجد الأدنى ، والمسجد الأقصى ، وأنه في ذلك الوقت لم يكن بنيت مساجد في فلسطين ، وأن الذى ألف حكاية المسجد الأقصى هم الدولة الأموية لأسباب سياسية ، وكان يتكلم عن الإسراء والمعراج ، وقال : إن سورة الإسراء وسورة النجم سور مكية والصلاة فرضت فى المدينة أريد تفصيلا حول هذا الموضوع .
الحمد لله
أولا :
قال الله تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ
مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء/ 1
والمسجد الحرام هو مسجد مكة ، والمسجد الأقصى هو بيت المقدس ، بلا خلاف بين
المسلمين ، قال ابن كثير رحمه الله :
" (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وَهُوَ مَسْجِدُ مَكَّةَ (إِلَى الْمَسْجِدِ
الأقْصَى) وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ الَّذِي هُوَ إِيلِيَاءُ ، مَعْدِنُ
الْأَنْبِيَاءِ مِنْ لَدُنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ ؛ وَلِهَذَا جُمِعُوا لَهُ
هُنَالِكَ كُلُّهُمْ ، فَأمّهم فِي مَحِلّتهم " انتهى من " تفسير ابن كثير " (5/ 5)
.
وقد دلت على ذلك النصوص الشرعية ، فمن ذلك :
- أن قوله تعالى : ( إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) محمول بالضرورة على ذلك المسجد
المعروف بهذا الاسم ، في نصوص الكتاب والسنة ، ولا يختلف أحد أن المسجد الأقصى هو
بيت المقدس .
- روى مسلم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ
طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى
طَرْفِهِ ) ، قَالَ: ( فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ) ، قَالَ :
( فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ) ، قَالَ (
ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ...)
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: " وَفِي هَذَا السِّيَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمِعْرَاجَ
كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنْ مَكَّةَ
إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ " .
قال ابن كثير :
" وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ "
.
انتهى من " تفسير ابن كثير " (5/ 9).
- وروى البخاري (4710) ، ومسلم (170) عن جَابِرَ بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (
لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ
المَقْدِسِ ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ) .
- وروى أحمد (23285) عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ : " أَتَيْتُ عَلَى حُذَيْفَةَ
بْنِ الْيَمَانِ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: ( فَانْطَلَقْتُ ـ أَوْ انْطَلَقْنَا ـ حَتَّى
أَتَيْنَا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ) وحسنه محققو المسند .
- وروى أحمد أيضا (3546) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ
لَيْلَتِهِ ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيرِهِ ، وَبِعَلَامَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
وَبِعِيرِهِمْ ... ) وصححه محققو المسند .
- وروى البخاري (1197) ، ومسلم (827) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا تَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلَّا إِلَى
ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى ) .
وروى مسلم (1397) عن أبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّمَا يُسَافَرُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ
الْكَعْبَةِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ إِيلِيَاءَ ) .
قال النووي رحمه الله :
" إِيلِيَاءُ هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ ... وَسُمِّيَ الْأَقْصَى لِبُعْدِهِ مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " .
انتهى من " شرح النووي على مسلم " (9/ 168) .
فلا يطلق المسجد الأقصى في الشرع إلا على مسجد إيلياء، وهو بيت المقدس ، وهذا
باتفاق المسلمين .
فمن قال : إن هذا ليس الأقصى الذى فى فلسطين ، ولكن فى الطريق من مكة إلى الطائف
كان هناك مسجدان: المسجد الأدنى والمسجد الأقصى، فهو هذا : فقد ضل سواء السبيل ،
وخالف الكتاب والسنة وإجماع الامة ، وافترى على الله كذبا .
ومن جهله وضلاله قوله : "وأنه في ذلك الوقت لم يكن بنيت مساجد في فلسطين ".
فيقال : فأين كان المسجد الأقصى المذكور في حديث أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: (المَسْجِدُ الحَرَامُ) ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ (المَسْجِدُ الأَقْصَى) ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ ، قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً) " رواه البخاري (3366) ، ومسلم (520) .
وهل كانت هناك مساجد بين مكة والطائف في ذلك الوقت ، ولم تكن الصلوات الخمس قد
فرضت بعد ؟
وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى هذا المسجد المزعوم أولا ، ثم لما حولت
القبلة توجه إلى البيت الحرام ؟!
لا شك أن من يقول مثل هذا الكلام : إما جاهل لا يدري ما يخرج من فيه ، أو ضال
غوي مبين ، يريد أن يضل الناس عن دينهم ، ويلبس عليهم أمرهم .
قال تعالى : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) البقرة/ 144
.
روى البخاري (399) ، ومسلم (525) عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى
نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ ، سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى
الكَعْبَة ِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)
، فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ " .
ثانيا :
أجمع العلماء على أن الصلوات الخمس إنما فرضت ليلة الإسراء ، وأصل الصلاة كان واجبا
قبل ذلك ، قال ابن كثير رحمه الله :
" أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة ، فلما كان
ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف ، فرض الله على رسوله صلى الله عليه وسلم
الصلوات الخمس ، وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك، شيئا فشيئا " انتهى
من "تفسير ابن كثير" (7 / 164) .
وكان أول فرض الصلوات الخمس ركعتان ، ثم بعد الهجرة أقرت في السفر ، وزيدت في الحضر
ركعتين ، إلا المغرب فعلى حالها . فروى البخاري (3935) ، ومسلم (685) عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ ،
ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا
، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأُولَى " .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (27 / 52-53) :
" أَصْل وُجُوبِ الصَّلاَةِ كَانَ فِي مَكَّةَ فِي أَوَّل الإْسْلاَمِ ؛ لِوُجُودِ
الآْيَاتِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي بِدَايَةِ الرِّسَالَةِ تَحُثُّ
عَلَيْهَا ، وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِالصُّورَةِ الْمَعْهُودَةِ
فَإِنَّهَا فُرِضَتْ لَيْلَةَ الإْسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ " انتهى .
وانظر جواب السؤال رقم : (143111)، ورقم : (145725) .
وقول هذا الجاهل : " إن سورة الإسراء وسورة النجم مكيتان ، وفرضت الصلاة فى المدينة
" دليل على تهافت قوله وتناقضه :
فالصلاة فرضت أولا قبل الهجرة ، ثم فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج - كما
تقدم بيانه آنفا ، وقد كان ذلك في مكة أيضا .
ثم إذا كان يعتقد أن فرض الصلاة كان بالمدينة ، وسورة الإسراء وسورة النجم مكيتان ، فكيف يزعم أنه كان هناك مسجدان في طريق مكة والطائف؟ ومن كان يصلي فيهما؟
فعلى المسلم ألا يصغ لمثل هذه الأقوال المتهافة وألا يعول في دينه إلا على أهل العلم ، فلا يغتر بكل من يتكلم في الدين، حتى يتبين له أنه من أهل العلم .
وينظر للفائدة إجابة السؤال رقم : (84314) .
والله أعلم .