عنوان الفتوى : الأفعال التي لا تفيد الكمال إلا مقيّدة ، هل يجوز وصف الله تعالى بها ؟
هل يجوز وصف الله ببعض الأفعال التي قالها سبحانه في وصف ذاته مثلا : ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) فهل يجوز أن نقول على الله : إنه ماكر ؟
الحمد لله
بعض صفات الأفعال : نسبها الله إلى نفسه لا على وجه الإطلاق ، وإنما في مقام يقتضي
المدح والكمال .
كما في قوله تعالى :
( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) آل عمران /54.
وكما في قوله تعالى :
( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ، وَأَكِيدُ كَيْدًا ) الطارق /15 – 16.
وقوله تعالى متوعدا المنافقين :
( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ، اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) البقرة /14 –
15 .
وفي قوله سبحانه وتعالى :
( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) النساء /142 .
فمثل هذه الصفات ( الكيد ، والمكر ، والاستهزاء ، والخداع ) هي كمالات نسبية ؛ في
بعض المقامات تقتضي المدح ، وفي مقامات أخرى قد تقتضي الذم ، والله سبحانه وتعالى
وصف بها نفسه على الوجه الذي يقتضي المدح ويفيد كمال العلم والقدرة والعزة والعظمة
والعدل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" كذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ " المكر " و " الاستهزاء " و " السخرية "
المضاف إلى الله ، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز ، وليس كذلك بل
مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلما له ، وأما إذا فعلت
بمن فعلها بالمجني عليه ، عقوبة له بمثل فعله : كانت عدلا " انتهى من " مجموع
الفتاوى " (7 / 111) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" لا ريب أن هذه المعاني يذم بها كثيرا ، فيقال : فلان صاحب مكر وخداع وكيد
واستهزاء ، ولا تكاد تطلق على سبيل المدح ، بخلاف أضدادها ، وهذا هو الذي غر من
جعلها مجازا في حق من يتعالى ويتقدس عن كل عيب وذم .
والصواب : أن معانيها تنقسم إلى محمود ومذموم ، فالمذموم منها يرجع إلى الظلم
والكذب ، فما يذم منها إنما يذم لكونه متضمنا للكذب أو الظلم أو لهما جميعا ، وهذا
هو الذي ذمه الله تعالى لأهله ...
وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح : فهو حسن محمود ، فإن المخادع إذا خادع
بباطل وظلم ، حَسُن من المجازي له أن يخدعه بحق وعدل ، وكذلك إذا مكر واستهزأ ظالما
متعديا ، كان المكر به والاستهزاء عدلا حسنا ..." .
انتهى من " مختصر الصواعق المرسلة " (3 / 739 - 740) .
وهذه الصفات ما دامت لا تفيد المدح على وجه الإطلاق ؛ فيلزم الآتي :
1- لا يوصف الله تعالى بها على وجه الإطلاق ، وإنما يوصف بها ، في سياق ما جاءت به
النصوص ، وهو الوجه الذي يقتضي المدح ، وتكون من صفات الكمال كما هو الحال في
الآيات السابقة .
2- ولا يجوز أن يشتق منها اسم يسمى به الله تعالى .
قال ابن القيم رحمه الله :
" فعلم أنه لا يجوز ذم هذه الأفعال على الإطلاق ، كما لا تمدح على الإطلاق ، والمكر
والكيد والخداع لا يذم من جهة العلم ، ولا من جهة القدرة ، فإن العلم والقدرة من
صفات الكمال ، وإنما يذم ذلك من جهة سوء القصد وفساد الإرادة ، وهو أن الماكر
المخادع يجور ويظلم ، بفعل ما ليس له فعله ، أو ترك ما يجب عليه فعله .
إذا عرف ذلك فنقول : إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء
مطلقا ، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى ، ومن ظن من الجهال المصنفين في شرح الأسماء
الحسنى أن من أسمائه الماكر ، المخادع ، المستهزئ ، الكايد ، فقد فاه بأمر عظيم
تقشعر منه الجلود ، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه .
وغر هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال ؛ فاشتق له [الذي اشتق
هو من يرد عليه ابن القيم ] منها أسماء ، وأسماؤه كلها حسنى ؛ فأدخلها في الأسماء
الحسنى ، وأدخلها وقرنها بالرحيم الودود الحكيم الكريم ، وهذا جهل عظيم ، فإن هذه
الأفعال ليست ممدوحة مطلقا ، بل تمدح في موضع ، وتذم في موضع ، فلا يجوز إطلاق
أفعالها على الله مطلقا ، فلا يقال : إنه تعالى يمكر ويخادع ، ويستهزئ ويكيد .
فكذلك بطريق الأولى : لا يشتق له منها أسماء يسمى بها ، بل إذا كان لم يأت في
أسمائه الحسنى المريد ولا المتكلم ولا الفاعل ولا الصانع ، لأن مسمياتها تنقسم إلى
ممدوح ومذموم ، وإنما يوصف بالأنواع المحمودة منها ، كالحليم والحكيم ، والعزيز
والفعال لما يريد، فكيف يكون منها الماكر المخادع المستهزئ ؟
ثم يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه الحسنى الداعي والآتي ، والجائي والذاهب ،
والقادم والرائد ، والناسي والقاسم ، والساخط والغضبان واللاعن ، إلى أضعاف أضعاف
ذلك من الأسماء التي أطلق على نفسه أفعالها في القرآن ، وهذا لا يقوله مسلم ولا
عاقل " .
انتهى من " مختصر الصواعق المرسلة " (3 / 745 - 746) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" وأما صفة الكمال بقيد ؛ فهذه لا يوصف الله بها على الإطلاق إلا مقيدا ، مثل :
المكر ، والخداع ، والاستهزاء .. وما أشبه ذلك ، فهذه الصفات كمال بقيد ، إذا كانت
في مقابلة من يفعلون ذلك ، فهي كمال ، وإن ذكرت مطلقة ، فلا تصح بالنسبة لله عز وجل
، ولهذا لا يصح إطلاق وصفه بالماكر أو المستهزئ أو الخادع ، بل تقيّد ، فنقول :
ماكر بالماكرين ، مستهزئ بالمنافقين ، خادع للمنافقين ، كائد للكافرين ، فتقيدها ؛
لأنها لم تأت إلا مقيدة " .
انتهى من " شرح العقيدة الواسطية " (1 / 143) .
وينظر للفائدة : "القواعد الكلية للأسماء والصفات" د. إبراهيم البريكان (185-194) ،
"معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى" ، د. محمد خليفة التميمي
(318-329) .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |